لكنْ هل هناك طبيعة إنسانيّة
ذاك أنّ المثقّف العام في تشومسكي، الصادر عن خلفيّة فوضويّة مشوبة بالماركسيّة، توقّف في تأويل الأحداث عند أسباب ومصادر معيّنة. بل هو، في حالات كثيرة، هبط بالأسباب إلى مؤامرات يصنعها طرف واحد وحيد هو الولايات المتّحدة التي كرهها ظالمة كانت أم مظلومة. في المقابل، ذهب عالم اللغة تشومسكي إلى أنّ البشر حين يولدون يكونون مالكين لمعطيات وقدرات لا تتطلّب أحداثاً تسببها.
وهذا، في آخر المطاف، فعل من أفعال الطبيعة الإنسانيّة.
فمنذ 1957 مع إصداره كتابه الصغير «بُنى التراكيب النحويّة» (Syntactic Structures)، قُدّمت اللغة كشيء «ينمو في الدماغ على عكس نموّ الأجهزة الفيزيائيّة المألوفة للجسد»، وتالياً رُبط اكتساب اللغة بالبيولوجيا، إذ نحن نولد مصحوبين بقدرة غريزيّة على تعلّمها. وهذه «الحالة الأوّليّة»، أو الطاقة التي تولد معنا وتقيم في أدمغتنا، إنّما يمثّلها امتلاك الطفل المولود «جهاز اكتساب اللغة» (Language acquisition device) واختصاره بـ(LAD).
فالطفل لا يأتي Sإلى العالم إلا مصحوباً بمصفوفة من مهارات وقواعد لغويّة يعرفها ويمارسها بشكل لا واعٍ، أمّا الوسط والبيئة المباشران فلا يعطيانه سوى المفردات التي يسكبها في تلك القواعد الجاهزة، أي في جهاز الـLAD. وهذا إنّما يعني استقلال قواعد اللغة، الجاهزة في الرأس منذ الولادة، عن استخداماتها المكتسبة.
والحال أنّ السهولة والسرعة اللافتتين اللتين يتميّز بهما تعلّم الأطفال اللغة توحيان بوجود تلك المعرفة السابقة بحيث لا يعود مطلوباً بذل أي جهد خاصّ للتعلّم. ذاك أنّ الأطفال يكسبون كلماتهم الأولى حين تكون أعمارهم ما بين العشرة أشهر والاثني عشر شهراً، ثمّ في شهرهم الثامن عشر يتجمّع في مخزونهم نحو من 50 كلمة، وفي الأشهر التالية يأخذ تراكم المفردات شكلاً انفجاريّاً بحيث يرتفع المخزون، مع بلوغهم السنتين، إلى نحو 500 كلمة، لتروح السرعة تتناقص والمخزون يتزايد مع الزمن. وهي عمليّة يمرّ بها الأطفال قبل أن يجيدوا مهارات وممارسات شديدة البساطة، كجمع 2 و2، أو استخدام بيت الخلاء بمفردهم، أو التمكّن من ربط شرائط أحذيتهم.
وإذا كان الأطفال «يخطئون» كثيراً بطبيعة الحال، فإنّهم لا يرتكبون الأخطاء التي تتناقض مع اشتغال «جهاز اكتساب اللغة» لديهم. فالطفل، مثلاً، لن يقول: «أمشي على أنا الطريق» فيما هو يريد أن يقول: «أنا أمشي على الطريق»، ولا يقول: «يلبس كميل ماهر مثل»، بدل «كميل يلبس مثل ماهر».
لكنْ أيضاً هناك، فيما يتعلّق باللغة، تلك الكونيّة التي تتّصف بها قواعدها، وفي هذا يصحّ ما يصحّ في حقائق كثيرة كاشتراك البشر جميعاً في الاستماع والنظر ومضغ الطعام وممارسة الجنس بالطريقة ذاتها.
وقد قدّم تشومسكي وتلامذته عشرات الأمثلة على أنّ اختلاف اللغات والبيئات التي يولد فيها أطفال المعمورة لا يحول دون امتلاكهم أنساقاً صوتيّة شبه واحدة، وهو ما يعود سببه إلى وحدة العقل البشريّ، من غير أن يعني ذلك، بطبيعة الحال، أنّهم يولدون مصحوبين بلغة بعينها، أو بقواعد أي لغة من اللغات وبمفرداتها.
فهم كلّهم يعبرون مراحل التطوّر اللغوي نفسها. وهم، في استجابتهم للأصوات، يميّزون بين تلك التي تحمل معنى، بما يجعلهم ينصتون إليها على نحو تأمّليّ، وتلك الثرثارة التي لا معنى لها أو ذات الإيقاع بما يُطربهم أو يحملهم على الضحك.
ولئن كانت لغات الأرض كلّها تملك نفس البنية الأساسيّة لناحية انطوائها على عدد من الأسماء والأفعال والنعوت، أي «القواعد الكونيّة»، فإنّ الأطفال جميعاً يرتاحون إلى نطق الأحرف الساكنة التي تخرج من الشفاه، كحرف الباء (أو ما يعادله في باقي اللغات)، أكثر مما إلى نطق الأحرف الساكنة الأخرى، كما يستسهلون الأحرف المتحرّكة التي لا ترتفع في الفم عند نطقها، كالـ«أ» والـ«وَ» مُفضّلينها على تلك التي ترتفع كـ «إي» و«يو»، وهذا كلّه مستقلّ عن مدى وجود هذه الأصوات في اللغات القوميّة.
لقد لعب تشومسكي (ومعه اللغوي وعالم الأعصاب الألماني الأميركي الذي لم يعمّر كثيراً إريك لِننبرغ) دوراً كبيراً في القرن العشرين لجهة إحداث تحوّل براديمي في اللغة وفهمها. جاء هذا كانقلاب على ما كان سائداً من أنّ اللغة هي ما يتمّ تعلّمه وتلقينه بتقليد الآخرين وملاحظتهم. والانقلاب هذا لم يخلُ من تحريك سجالات حادّة ومتواصلة. فهناك الحجج والحجج المضادّة من لغويّة ونفسيّة وطبية، وأهمّها افتقار ما أتى به تشومسكي إلى ما يكفي من أدلّة توفّرها الدراسات اللغويّة، وكونه، مع الزمن، أخضع أعماله لتعديلات ومراجعات أضعفتها. كذلك ظهر من يتّهمه بالماهويّة، وبأنّه إنّما ردّ العقلانيّة التي يدين بها إلى سويّة الاشتغال البيولوجيّ. وفي المقابل ظهر من يدافع عنه مؤكّداً على كونيّة نظريّته التي تسهم في تقويض العنصريّة، أو أنّه بمكافحته التجريبيّة (empiricism) رسّخ انتسابه إلى الوعي الغائي (teleological). وهي عناوين قليلة لا تختزل المسائل التي ثارت من جرّاء المساهمة التشومسكيّة. وحتّى اليوم لا يزال المتكهّنون يتكهّنون. لكنْ بغضّ النظر عن وجود طبيعة إنسانيّة أو عدم وجودها، يبقى مؤكّداً مدى التأثير الذي تركته تلك النظريّات، المعروفة أيضاً بـ«التوليديّة» (generative) و«التحويليّة» (transformational)، على معارف وحقول تمتدّ من علم النفس والفلسفة إلى الرياضيّات وعلم الكومبيوتر وما يتعدّاهما...
نسبة للمشاركين الموضوعية في الانتخابات 36% .. وهذه أعلى دائرة مشاركةً
الاستعلام عن نتائج الانتخابات البرلمانية 2024 إلكترونيًا
البث العبرية: غانتس وأهالي أسرى إسرائيليين التقوا رئيس وزراء قطر
أمير يزبك ينفي شائعات طلاقه: علاقتي مع مرتي منيحة
الأمن العام: تحقيقات حول إطلاق نار في مقر انتخابي بالجفر .. فيديو
مهم بشأن سعر تنكة زيت الزيتون هذا الموسم
مواطنون ترتبت عليهم مبالغ مالية يجب دفعها .. أسماء
وظائف شاغرة لدى الجمارك الأردنية .. رابط
ماذا توقعت ليلى عبداللطيف لغزة ولبنان
تعيين 90 مرشحا لوظيفة معلم .. أسماء
التربية تحذّر من تجاوز نسبة الغياب في المدارس .. تفاصيل
رجل أعمال سعودي يجد حلاً لفئران فرنسا
أسماء المرشحين لدبلوم إعداد وتأهيل المعلمين
الطاقة: انخفاض سعر البنزين أوكتان 90 عالمياً
فرصة للشراء .. انخفاض كبير على أسعار الذهب بالأردن السبت
شركات طيران تمدّد تعليق رحلاتها إلى الأردن .. أسماء