الأم والزوجة

mainThumb

11-05-2023 01:39 PM

كثيرة هي المرات التي كانت فيها أمي و جدّتي تفسدان علي متابعة التلفزيون، إذ تتشاجران بسبب أو بدونه...
أسمعُ جدّتي تتلفظ بكلام اعتبره فاحشاَ، فأخجلُ من أمي ، وقد كان عمري عشر سنوات ...
تصرخ ُجدتي بيأس وغضب :
ـــ لا تنسي ! تذكري جيدا! سيكبر حسين ويتزوج، وتفعل بك ألكنة نفس ما تفعلينه بي الآن ! سيتغير وينساك بمجرد أن تضعه بين فخذيها، وتشير يبديها بذلك الفعل...
آه ... يا جدتي ...
ولما يعود أبي من العمل تشتكي إليه جدتي ما تفعله أمي معها، فينصتُ كعادته صامتاَ لأنه يعرف أن السبب تافه، ويعرف أمي جيدّا، بل ويعرف النسوة ومنطقهن!
وما إن تضع أمي مائدة الطعام أمامه حتى تشرعُ في الشكوى من جدتي...
يتناول الأكل وهو ساكت ، وأمي تدمدم متذمرة ... وبين الفينة والأخرى يقول مبتسما َ :
ــ إنها أمي ... إنهـــــــــا أمي ...
ــ أعرف بأنها أمك ! لكن لماذا لا تذهبُ إلى ولديها الآخرين؟
ــ إني محظوظ ... فضلتني عليهما ... وعلينا أن نفرح لا لنحزن...
ــ لا ... وجدتك أبلهاَ! خاوي الرأس!...
ــ بل إنها أثرتك أنت على كنتاها الاخرتان .. إنها امرأة مسنّة يا زّوجتي العزيزة، وأنت لا تزالين صغيرة، لكن سنكبر ونُصبح مثلها يوما ما... والعقوق وبر الوالدين ... دًينْ... دَينْ...وأنت تعرفين ذلك، فإن عققنا اليوم سنُعق غدا، ما في ذلك شك ! إنه قانون اجتماعي لا يتغير ، ثابت ....
وتقتنع أمي قليلاً ، وتهدأ ، لكن الشجارات لا تتوقف ، وافرح كثيرا لما تكون في فناء البيت ، وليس في الصالة ، بعيدا عن التلفزيون!
توفتْ جدتي في ليلة شتوية باردة ، فاختفتِ كل تلك الشجارات ، وتمنتْ أمي لو بقيت معنا ولو تخاصمتْ معها ألف مرة في اليوم ، وأسفت ْ أيضا أنها رحلت عنا قبل أن يتزوج أحد أحفادها أو حفيداتها ....
جدتنا التي أحببناها، وتربينا جميعناً في حجرها، وحملتنا فوق ظهرها، وأنقذتنا من عقاب والدينا، وحمتنا من تنمر الأطفال خارج البيت...
وقبل أن تتوفى بثلاث أيام، وقد اشتدّ عليها المرض نادت أمي، وأجلستها أمامها وقالت لها:
ـــ إني راضية عنك ! وراضية عن زوجك، وعلى جميع أولادك...
تحجرت الدموعْ في عيني أمي إذ عرفت أنه الوداع الأبدي، فاحتضنتها وقالت محاولة أن تبتسم: ـــ إنك أمي ..بل أفضل من أمي عائشة التي ولدتني ! .. الطبيب قال بأنها مجرد وعكة صحية ..
تُوفيتْ جدتي ، وحزن والدي كثيرا ... ومدحه الجيران والأقارب وقالوا عليه دعوة الخير، ومحظوظ أن توفتْ أمه عنده، أما عميْ الآخرين فكان الندم الحقيقي يعتصر قلبهما، فلم تعد لهما أي فرصة لكي يبرا أمهما...
و نضج الشاب، ومر الزمن بسرعة، وبعد سبعة سنوات من وفاة جدتي تزوجت ْ ....
وبعد سنوات قليلة توفي والدي، في ليلة شتوية باردة أيضا، في نفس الشهر الذي توفت فيه جدتي ...
أبي الذي كان سندي ...
رحل وترك لنا الأم...
ترك لي كلمات كان يقولها لها لما تصرخ في وجهه متضايقة من جدتي الراحلة ...
وها هي زّوجتي اليوم تقول نفس الكلامْ، نعم ، كما قال أبي إنها سُنّة من سُنن البناء الاجتماعي عندنا ، معادلة الأم والزوجة قارورة زيت ، وتُوجد في كل بيت ...
ولا استطيع إلا أن أرد بما كان يردُ والدي ..
و تصرخ زوجتي غاضبة : ـــ يا سلام ! القيم الإسلامية لماذا لا يلتزم بها إخوتك الآخرون ؟ لماذا أنت فقط ؟...
فأجذبها ، وأقبلها على رقبتها ، ثم أهمس في أذنها : ـــ إذا رضيتْ عني وعنك ، فذلك فيه نفع كبير لأولادنا ، وسيصرفُ الله عنهم المصائب ويبارك لهم في حياتهم ودراستهم ... هذا قانون اجتماعي لا يتبدّل ....
تريد ُ أن تقول شيئا ، يدخل ابني الصغير ، فتبتعد عني ..
حقيقية اجتماعية ، ليستْ فقط أمي سابقاَ ، أو زّوجتي الآن ، وربما كنتي غدا ، وكذلك الكثير من النسوة والزوجات لا يُدركنها ، أن الزمن يمر بسرعة ، وغدا سنشتاق إلى أحباء نتضايقُ منهم اليوم !


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد