الديمقراطية والصراعات العشائرية

mainThumb

07-09-2024 01:59 PM

لطالما كانت الانتخابات البرلمانية لحظة فارقة في حياة المجتمعات، فبينما يفترض أن تكون وسيلة لتعبير الشعب عن إرادته واختيار من يمثله بشكل ديمقراطي وحضاري، إلا أنها في بعض الأحيان تتحول إلى ساحة للتنافس الشديد الذي يتعدى حدود السياسة ليصل إلى خلافات وعداوات شخصية بين أفراد المجتمع وخاصة عندما يكون النظام الانتخابي مؤسسًا على منافسة فردية ولكن تحت مفهوم القوائم والتي تنطوي تحت ضغط عشائري كبير مثلما يحدث في بعض المناطق في الأردن فالنظام الانتخابي في الأردن يعتبر بالنسبة للكثيرين عاملًا رئيسيًا في تغذية هذه النزاعات وهو ما يضع أفراد القبيلة أو العشيرة الواحدة في مواجهة مباشرة ويخلق حالة من التوتر بين أبناء العمومة والجيران والزملاء في العمل ، فالمرشحون يسعون جاهدين للفوز بأي ثمن، مما يجعلهم يلجؤون لاستراتيجيات تؤدي في بعض الأحيان إلى تمزيق نسيج المجتمع المحلي.
إضافة إلى ذلك، لا يمكن إغفال الثقافة السياسية السائدة ودورها في تعزيز هذه العداوات ففي كثير من المجتمعات، لا يزال الانتماء العشائري والقبلي هو الأساس الأول في تشكيل التحالفات الانتخابية فبدلاً من أن تكون الانتخابات فرصة لاختيار أفضل المرشحين على أساس برامجهم ومؤهلاتهم، نجد أن التصويت يتحول إلى مسألة ولاءات عشائرية وقرابات عائلية، حيث يتعين على الفرد أن يصوت لأحد أفراد عشيرته بغض النظر عن مدى كفاءته أو ملاءمته للمنصب و هذه العقلية تعزز الشعور بالاستقطاب والعداء بين المرشحين وأنصارهم داخل المجتمع المحلي، بحيث يتم تفسير كل نجاح أو هزيمة من خلال هذا المنظور العشائري الضيق، مما يؤدي إلى احتدام النزاعات بين العائلات والعشائر المتنافسة .
من ناحية أخرى، يمكن القول بأن النزاعات الناتجة عن الانتخابات ليست دائمًا وليدة النظام الانتخابي فحسب، بل إنها نتيجة لعوامل متشابكة تشمل السياسة والثقافة معًا ففي مجتمعات حيث العشيرة هي المحور الرئيسي للحياة الاجتماعية والسياسية، فإن أي مواجهة انتخابية تعتبر تحديًا لمكانة العشيرة وقوتها أمام العشائر الأخرى لذا فإن الفوز في الانتخابات لا يعد مجرد فوز شخصي للمرشح، بل هو أيضًا انتصار للعشيرة بأكملها، والعكس صحيح فالهزيمة تُعتبر إهانة قد تؤدي إلى تصعيد التوترات وتحويلها إلى صراعات طويلة الأمد
و على الرغم من التعديلات العديدة التي طرأت على قوانين الانتخاب في الأردن على مر السنين، إلا أن هذه الثقافة الانتخابية القائمة على الولاءات العشائرية والنزاعات المحلية لم تتغير بشكل جوهري فمع كل تعديل جديد، كان الأمل بأن يكون القانون أكثر عدالة وشمولية، إلا أن التحدي الأكبر ظل قائمًا وهو كيفية تغيير العقلية التي تحكم سلوك الناخبين والمرشحين على حد سواء فالتركيز ظل منصبًا على تحسين آليات الانتخاب وتقسيم الدوائر، لكن دون معالجة الثقافة العميقة التي تعتبر العشيرة المحور الأساسي في عملية التصويت، بحيث بقي التصويت للعشيرة أقوى من أي قانون جديد يُفرض على العملية الانتخابية .
وبالتالي ، يبدو أن قانون الانتخاب ليس هو العامل الوحيد في إثارة هذه العداوات بل إن جذور المشكلة تمتد إلى الثقافة السياسية العميقة التي تهيمن على المجتمعات والتي تضع الولاء للعشيرة فوق الولاء للوطن أو للقيم الديمقراطية والحضارية في هذا السياق، و يجب أن نطرح تساؤلًا عميقًا حول كيفية تجاوز هذه الحالة من النزاعات الانتخابية التي لا تؤدي إلا إلى تمزيق الروابط الاجتماعية وتعميق الانقسامات ، فالإصلاح الحقيقي لا يجب أن يكون فقط على مستوى القوانين والأنظمة الانتخابية بل يجب أن يمتد أيضًا إلى تغيير الثقافة السياسية والاجتماعية في المجتمعات لكي تصبح الانتخابات فرصة لبناء توافق وطني حقيقي بدلًا من أن تكون ساحة للنزاعات والعداوات.
وعليه أصبح لا بد من معالجة هذه المشكلة بشكل جذري، و يجب أن يكون الحل متعدد الأبعاد ؛ بحيث يبدأ بتعزيز الوعي السياسي لدى المواطنين وذلك من خلال برامج تعليمية وتوعوية تهدف إلى تعريف الناس بأهمية التصويت على أساس البرامج والسياسات ، وليس على أساس الانتماءات الشخصية أو العشائرية ، ومن ثم يجب العمل المكثف على تعزيز دور الأحزاب السياسية كقوة حقيقية قادرة على تمثيل الناخبين بشكل جماعي على أساس الأيديولوجيات والسياسات، مما يقلل من الاعتماد على الشخصيات الفردية والعشائرية ، بالإضافة إلى أنه يجب دعم مؤسسات المجتمع المدني لتلعب دورًا أكبر في تعزيز الحوار المجتمعي وبناء جسور التواصل بين مختلف الفئات والعشائر، بما يساهم في تخفيف حدة التوترات والعداوات المحلية.
و أخيرًا، لابد من تطبيق سياسات قانونية أكثر صرامة تجاه أي محاولة لإثارة النزاعات الانتخابية أو استغلال الانتماءات العشائرية لتحقيق مكاسب سياسية ، بما يضمن أن تكون العملية الانتخابية عادلة ونزيهة وقائمة على المنافسة الصحية.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد