الوعيد الصهيوني والتهديد الأمريكي

mainThumb

09-04-2025 02:01 AM

توعد نتنياهو منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 الفلسطينيين بنكبة أخرى. وظل يراهن على وصول ترامب إلى البيت الأبيض ليسمع منه تهديدا يجعل غزة تعيش تحت الجحيم. ورغم مرور كل هذا الزمن على حرب لم تبق ولم تذر، لم يحقق نتنياهو أيا من أهدافه، اللهم إلا ما اتصل بإشباع النهم إلى سفك الدماء، وتدمير كل ما يتحرك أو يلبي حاجات الفلسطينيين اليومية. ولم تنج من ذاك النهم مؤسسات دولية أو هيئات أممية أو إعلامية.
لقد دفعت التداعيات المتلاحقة إلى الدخول في هدنة، واتفاق لوقف إطلاق النار. وكانت الحكومة اليمينية المتطرفة ترى نفسها متورطة، في ما لا تريده إلا مكرهة، لأنه حسب اعتقادها لا يمكن أن يكون التفاوض إلا تحت النار، متوهمة بذلك أنها تحقق انتصارات باهرة في حربها الهمجية ضد الفلسطينيين.
وتلاشت كل الأوهام في تقديم نصر حقيقي، رغم ارتكابها أفظع الجرائم التي لم يعرفها أي شعب من الشعوب، التي خضعت للاستعمار الغربي في القرن العشرين. وها هي اليوم بمباركة غطرسة ترامب وحماقاته، تواصل ما بدأته منذ مستهل طوفان الأقصى، مستغلة ما بدأ يلوح به عن وقف طلاق النار في غزة في أيام وصوله الأولى إلى السلطة، فإذا بذلك لم يكن سوى مخطط لابتلاع غزة وإلحاقها بإسرائيل تحت إمرته، التي سيجعل منها جنة على الأرض. وتبين بالملموس أن المقاومة الفلسطينية لم تكن في مواجهة فقط مع العدو الصهيوني، ولكن أيضا، وبكيفية واضحة، مع حليفها الأمريكي، وأن لا فرق في ذلك بين اليمين المتطرف أو المعارضة، ولا بين الديمقراطيين والجمهوريين. إن الوعيد الصهيوني والتهديد الأمريكي ينطلقان معا من أسطورة الأمن القومي اليهودي، والأمن القومي الأمريكي في المنطقة. وهذا الأمن لا يمكن تحقيقه إلا بالقضاء على كل من في الشرق الأوسط.
استغلت الصهيونية الهدنة ووقف إطلاق النار في لبنان وغزة فاتجهت نحو الضفة، وبدأت تتمدد داخل سوريا ضاربة دمشق وحمص، ومتوغلة داخل درعا. وفي الوقت نفسه توجه ضرباتها إلى جنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبية، لتعاود من ثمة تقطيع أوصال غزة واستئناف مسحها من الخريطة، كما توعدت بذلك منذ بداية الطوفان، تأكيدا لما صرح به ترامب.
لم تعدم إسرائيل في كل حربها التدميرية المسوغات والمبررات التي تجعلها تتجاهل القوانين والأعراف الدولية، فهي تواصل متابعة «الإرهابيين» حيثما حلوا أو ارتحلوا، وتدعي في كل مرة استهدافهم متناسية عدد المدنيين الأبرياء الذين ترمي إلى القضاء عليهم مع سبق الإصرار، خاصة الأطفال، والنساء، والجرحى، أملا في إنهاء أي وجود لعربي في المنطقة، أو تقليص أعدادهم ووجودهم. وتقدم أمريكا الصورة عينها في مواجهة الحوثيين، مدعية على غرار إسرائيل، أنها تصفي قياداتهم، أملا في استعادة الملاحة في البحر الأحمر مسارها الطبيعي. ولتبرير هذا الوعيد وذاك التهديد يتم ربط الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بإيران، ولا يني نتنياهو وترامب يشددان على محور الشر في المنطقة، إن كل الذين ظلوا يتحدثون عن طوفان الأقصى، وتداعياته، واتهامه بخلق الذرائع لإسرائيل لمواصلة حربها ووعيدها، وتدخل أمريكا ومباركتها ما تقوم به إسرائيل يظهر لهم الآن بجلاء بطلان ادعاءاتهم، وأن مقولات الأمن والدفاع عن النفس، ليست سوى أكاذيب وأراجيف باطلة تغطي على مطامح الصهيونية ومطامعها في التوسع على حساب «جيرانها». وما بدأت تلوح به الصهيونية حيال سيناء، وتدخلها السافر ضد صلاحيات مصر على حدودها، أو موقفها من تركيا وحضورها في سوريا، سوى أكبر دليل على أن من يهدد المنطقة ليست المقاومة، ولكن الدولة اليهودية القومية، ومن ورائها أمريكا.
لم تكن هذه الصورة التي تكشفت الآن عن دور إسرائيل في المنطقة غائبا عن الوعي السياسي الإنساني برمته، منذ بداية تأسيس هذا الكيان العنصري. لكن التواطؤ والصمت المريب من لدن الجميع أوكل لإسرائيل تسيدها في المنطقة، وكأنها بذلك تمثل حزام الأمان العالمي الذي يخلد تخلف المنطقة، ويحول دون أي تحول يهدد المصالح الغربية في المنطقة. لم تتكشف فقط حقيقة الصهيونية على الصعيد العالمي، خاصة مع الأجيال الجديدة، ولكنها أيضا أبانت عن سقوط الأساطير التي انبنت عليها، وعن قوتها التي لا تقهر. إن صمود المقاومة المحاصرة في قطاع مغلق في وجه قوة عسكرية مدعّمة من أمريكا والغرب، ومجهزة بأدق الوسائل الحربية والاستخباراتية، التي يوفرها جديد التكنولوجيا الرقمية أعطى الدروس القوية، أن القضية الفلسطينية لن تموت، ولن يتم القضاء عليها باستهداف رموزها أو قادتها، إنها قضية شعب عانى أطول وأقسى حكم استعماري استيطاني عنصري في العصر الحديث.
إلى أين يقود الوعيد الصهيوني والتهديد الأمريكي المنطقة؟ هل سيفلح من يدعي الشرق الأوسط الجديد وإسرائيل الكبرى، في الحفاظ على الأمن الصهيوني؟ وهل سينجح من يدعي استعادة العصر الذهبي الأمريكي والهيمنة الأمريكية على العالم كما يلوح بذلك ترامب؟ يعلمنا تاريخ البشرية، وهو أعمق معلم، أن انهيار أي طغيان أو إمبراطورية قدر لا مرد له. وتبدأ ملامح هذا القدر في التشكل عندما يبدأ مجانين يمارسون السلطة، وهم يدعون أنهم الأقوى، وقراراتهم لا راد لها. ولعل ردود الفعل ضد الرسوم التي فرضها المريض بتوقيعاته الغزيرة والمعقدة والتي يوقعها يوميا، والمفتون بها حد الهوس حتى إنه وحده الذي يبرزها للعالم، بداية الكشف أن من يتحزَّم به نتنياهو سيجره معه إلى مزبلة التاريخ.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد