جسد القصيدة وثوب الأغنية

mainThumb

05-05-2025 02:24 AM

فلنتخيل أن أشهر مطربة عربية في كل الأزمنة تختار قصيدة لشاعر لتغنيها، مع ما يعنيه ذلك من خلود فني وانتشار كبير، مشترطة تغيير كلمة واحدة فقط، وهو أمر معتاد جدا، حين تحوّل أي قصيدة إلى أغنية، للفارق بينهما. ولكن المفاجئ أن الشاعر رفض ذلك بشدة وأدار ظهره لكل ما يمكن أن يجلبه له هذا التعاون من شهرة وذيوع. حدثت هذه القصة الواقعية في خمسينيات القرن الماضي حينما زارت كوكب الشرق وسيدة الغناء العربي أم كلثوم دمشق، وأُعجبت بقصيدة «شقراء» لبدوي الجبل أحد الكلاسيكيين الكبار في الشعر العربي، وطلبت منه غناءها مع اقتراح وحيد، بتغيير كلمة شقراء إلى سمراء، وهي الصفة المناسبة أكثر للمرأة الشرقية، ولكن الشاعر رفض ذلك متذرّعا بأن القصيدة كتبت في امرأة سويسرية وهو يفضل أن تبقى القصيدة على حالها وفاء لذكراها.
ولم يُجدِ إصرار أم كلثوم في محاولة إقناعه، فانصرفت عنه غاضبة مقررة ألا تغني من شعره أبدا. وهكذا ضاعت على عشاق الطرب العربي أن يسمعوا «الستّ» وهي تشدو: كلُّ المحبّين ملكي.. وأنت وحدكَ نِدِيّ/ وكبرياءُ جمالي.. تريدُ منكَ التحدّي، وضاعت على بدوي الجبل فرصة أن يعرفه حتى الفلاحون الأميون في أريافهم والمراهقون المتيّمون في مراسلاتهم، كما عرفوا اللبناني جورج جرداق في «هذه ليلتي»، والسوداني الهادي آدم في «أغدا ألقاك». ولا أعتقد أن أم كلثوم كانت ستكتفي بتغيير كلمة واحدة من القصيدة، لأن بدوي الجبل بناها على تفضيل الشقراء على السمراء، فما عساها السيّدة كانت فاعلة في قول البدوي: شقراءُ يا لونَ حُسنٍ.. مُحَبَّبٍ مُسْتَبِدِّ/ لا وسمُ ليلايَ فيهِ.. ولا ملامحُ هِندي/ ولا اسمرارُ الغريراتِ.. بالعقيقِ ونَجْدِ؟
وتدخُّل أم كلثوم في كلمات القصائد التي تغنيها طبيعة متأصلة فيها، وأشهر مثال على ذلك رائعة الأطلال لإبراهيم ناجي، فقد أدخلت عليها (على يد أحمد رامي) سبعة أبيات من قصيدة أخرى لناجي بعنوان «الوداع» من ضمنها واحد من أشهر أبيات الأغنية : هل رأى الحب سكارى مثلنا، وهذا الشطر بالذات غيرت فيه أم كلثوم أيضا كلمة في حادثة طريفة حدثت سنة 1967 على مسرح الأولمبيا في باريس حين صعد أحد المعجبين إليها وهي تغني الأطلال محاولا تقبيل رجلها فأوقعها أرضا، وأمام دهشة الفرقة الموسيقية والجمهور أكملت «الست» غناءها مستبدلة بسرعة بديهة عُرفت بها كلمة من البيت، فغنت (هل رأى الحب سكارى بيننا) وهي تشير إلى المعجب المجنون، والشرطة تقوده خارج القاعة. وكثيرا ما شغلني سؤال: هل كان إبراهيم ناجي يرضى بهذه العملية الجراحية، التي أجرتها أم كلثوم على أطلاله أم سيكون موقفه كموقف بدوي الجبل؟
ولم تكن تدخلات أم كلثوم في القصائد التي تغنيها جميعها موفّقة، ففي واحدة من أشهر أغانيها «أراك عصي الدمع» غيرت كلمة «بلى أنا مشتاق» إلى «نعم أنا مشتاق» لتتجنب المعنى الذي يحيل إلى كلمة «بَلا» المصرية التي تعني بلاء. فوقعت في خطأ نحوي، لأن السؤال المنفي لا يُجاب عنه بنعم. لذلك نجد أن تدخل المطرب في كلمات القصيدة قد يُصيب، ولكنه أيضا قد يخيب، وقد كتبتُ مرة في هذه الجريدة أن محمد عبد الوهاب «فضّل أن يغيّر كلمة (قُدّامي) في: ولقد أبصرت قدّامي طريقا فمشيتُ، بكلمة (أمامي) في قصيدة «الطلاسم» الشهيرة لأبي ماضي، لأن لفظة (قدّامي) لم تعجبه رغم أنف الوزن»، وهذا مستغرب ممّن كان يفرد له أحمد شوقي غرفة في قصره وتربّت ذائقته الشعرية على يد أمير الشعراء.

وهذه التغييرات التي يجريها المطرب على القصيدة قد تقلب المعنى وتسيء إلى القصيدة، وما أزال كلّما سمعت مطربا يغني «ما ظُنْ مجنون ليلى قد جُنَّ بعضَ الجنونِ»، بدل «بعض جُنوني»، أتعجب كيف يمكن لفنان المفترض أنه مرهف الإحساس متذوق للكلمة الجميلة أن يستبدل معنى جميلا بجملة باردة لا تضيف شيئا.
أتفهّمُ أن هناك عوامل عديدة بعضها وجيه في دفع المطرب إلى تغيير كلمات القصيدة، شرط ألا تكسر وزنا ولا تقلب معنى، وحبذا لو يكون كاتب القصيدة هو من يجري التعديل المناسب، ولنا في نزار قباني خير مثال، فقد كان يجري تعديلات كثيرة على قصائده التي تُغنّى لإدراكه باكرا أهمية الأغنية الناجحة في إيصال شعره إلى جمهور أعرض وأوسع من قارئي الدواوين وحاضري الأمسيات الشعرية. فكان يغيّر في قصيدته إلى حد أن تكاد تكون قصيدة أخرى فيضيف ويحذف لأسباب نتفهّمها، حين نقارن بين نص القصيدة ونص الأغنية، فلا يمكننا تصور ماجدة الرومي مثلا تغني «نعترف أمام الله العادل أنّا راودناكِ، وعاشرناكِ، وضاجعناكِ، وحمّلناكِ معاصينا»، بدلا من «بأنّا جرحناكِ، وأتعبناكِ، بأنا أحرقناكِ، وأبكيناكِ، وحمّلناكِ أيا بيروت معاصينا»، ويكفي أن نقارن بين «زيديني عشقا» القصيدة، والأغنية التي غناها كاظم الساهر لنجد كثيرا من مسوغات التغيير مبررة، مثل تفادي إيحاءات الكلمة الجنسية حين غيّرَ نزار «جسمك خارطتي» إلى «حبك خارطتي»، وقد صرح كاظم مرة أن الرقابة اعترضت على هذه العبارة.

وكذلك الأمر مع لفظة «اضطجعي» التي أصبحت في الأغنية «وظلّي قربي غنّيلي»، أو ملاءمة النص لهوية الشاعر حين غنى كاظم ابن العراق «من بغداد إلى الصين» بدل من «من بيروت إلى الصين»، إضافة إلى المحذورات الدينية، التي تجلت في استبدال جملة «نكهة كفري ويقيني» بـ»نكهة شكي ويقيني». فهذه الأغنية اجتمعت فيها الأسباب الموجبة للتغيير، يضاف إليها إلى ما ذكرناه من الدافع الجمالي في المثال غير الموفق لمحمد عبد الوهاب. بعكس أم كلثوم التي تجمع مع حسها اللغوي العالي وتذوقها للشعر العربي القديم، رعاية شاعر كبير بالفصحى والعامية، هو أحمد رامي، لذلك استطاعت أن تجري تعديلا ولو بسيطا مع الشاعر مأمون الشناوي الذي استرد منها ثلاث كلمات أغاني وهي (حبيب العمر والربيع وأول همسة) وأعطاها لفريد الأطرش فقط لأنها حاولت التدخل في نصّه، وحين اتفقا أن تغني من كلماته «أنساك» بعد أن وافقت أن تقبلها كما هي، غلب الطبع التطبع واقترحت عليه استبدال «وأعمل في حبك إيه وأعمل في روحي إيه» بـ»وأعمل في حبك إيه وأقول لقلبي إيه» فغضَّ النظر عن ذلك ووافق.
وبالعودة إلى نزار لم يكن تساهله في تغيير كلمات قصائده مسموحا به للمطرب أو الملحن، بل كان مشروطا بأن يجريه هو بنفسه، وقد حفظت لنا التسجيلات فيديو على هامش تقديم عبد الحليم لأغنية «قارئة الفنجان» في شيراتون دمشق، يعاتب فيه نزار قباني عبد الحليم على التعديلات التي أدخلها مع الملحن محمد الموجي على الكلمات، من دون الرجوع إليه وتسبب في كسور عروضيّة في القصيدة لم تُشفَ منها إلى الآن، فقال نزار بصراحة، رغم أنّه معروف بدبلوماسيته: «ما وقع بها من أخطاء، ناتج عن اللعب الذي لعبتموه في القصيدة لدوافع موسيقية، وأنا احترمت رغباتكم، لكنني كنت ضد التغيير».

رغم أنه غيّرَ هو بنفسه فيها وفي أختها «رسالة من تحت الماء» الكثير، وقد قرأت مرة وذكر ما يؤيد هذا محمد الموجي، أن عدد المكالمات الهاتفية بين عبد حليم ونزار وصلت إلى ثمان وثلاثين مكالمة، تتراوح كل مكالمة منها بين ساعة وساعة ونصف الساعة، لإجراء تغييرات في جسد القصيدة. وللإنصاف قد يكون أحيانا اختيار المطرب أو الملحن أفضل من اختيار الشاعر، خاصة إذا كان الملحن شاعرا وكاتبَ كلمات أيضا، وأفضل مثال على ذلك ما رواه الكاتب والمسرحي اللبناني فارس يواكيم في كتاب له كبير ممتع عنوانه «حكايات الأغاني رحلة القصيدة من الديوان إلى الأغنية»، خصصه مع أمثلة كثيرة جدا لموضوع مقالنا، يروي أن قصيدة «قد أتاك يعتذر» التي غنتها فيروز من ألحان الأخوين رحباني «ضمّت خمسة عشر بيتا، فاختصراها إلى ثمانية فقط. وغيروا فيها كثيرا فعدّلوا كلمات، وأعادوا ترتيب أبيات» ورغم أن الشاعر الأخطل الصغير نشرها في المرة الأولى كاملة إلا أنه عندما أعاد إصدار ديوانه أهمل قصيدته الأصلية، واعتمد النسخة الرحبانية الفيروزية.
أُدرك أن طبيعة القصيدة المكتوبة تختلف عن طبيعة الأغنية المسموعة، وأنا مع التغيير الذي يطوِّع القصيدة للحن شرطَ ألا يحوّلها المطرب الجاهل بالعروض واللغة إلى نكتة سمجة كجميع الفنانين الذين غنوا البيت القائل «لمْ أَنْسَ ذِكْرَكِ في الصّباحِ وفي الغَلَسْ» فحوّلوه إلى (لَمَسْتَ ذِكْرُكِ) فأخطأوا في النحو وفي العروض وفي المعنى في ثلاث كلمات.

شاعرة وإعلامية من البحرين






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد