ليست مجرد زيارة!

mainThumb

07-05-2025 11:10 AM

كان يمكن للخبر أن يمرّ عابرًا، كما تمرّ آلاف التصريحات الرسمية التي تغرق الشاشات، لولا تلك اللمحة في عين "ويتكوف" حين تحدث عن زيارته القادمة، ولولا تلك الجملة التي أفلتت كأنها تعثر في لسانه: "نأمل بتحقيق تقدم في جهود وقف إطلاق النار قبل أو أثناء زيارة الرئيس ترامب للمنطقة".

جملة واحدة، لكنها حملت في ثناياها ما يكفي ليفتح بوابة التأمل في مشهد أعقد من أن يُفهم بتوقيت أو يُقرأ بنوايا طيبة.

ما الذي يعنيه أن تتحرك طائرة رئيس دولة بأكملها، محملة بالأسرار والخرائط والنوايا، إلى عواصم الخليج الثلاث؟ أن تمرّ على الرياض، وتحيي أبوظبي، وتتوقف في الدوحة... لكنها تتجاهل الكيان الذي يدّعي البيت الأبيض أنه حليفه الأوثق؟

هل يعقل أن تكون هذه "الصدفة" بريئة؟ أم أن وراء الأكمة أجندة مكتومة تحاول رسم خارطة جديدة للحرب، لا بمدافعها، بل بأحاديث القاعات المكيفة؟

الواقع، كما بدأ يتكشف شيئًا فشيئًا، أن واشنطن أنهكتها المجازر اليومية في غزة أكثر مما توقعت. ليس لأن الدم الفلسطيني بات يثقل ضميرها، بل لأن الكاميرا باتت تنقله بلا استئذان، والميديا الغربية ، التي لطالما ابتلعت صمتها ، بدأت تتمرد على الرواية المعتادة.

ترامب، الذي اعتاد أن يرسم سياساته بخطوط صاخبة، لا يأتي إلى الخليج من باب المجاملة. إنما يبحث، بتأنٍ هذه المرة، عن طوق نجاة لمعادلة تنفلت من يده.

فالمعادلة تغيرت: الحرب في غزة لم تعد شأناً عسكريًا صرفًا، بل تحولت إلى ملف تفاوضي شائك، تضغط به واشنطن، وتناور به تل أبيب، وتتوجس منه العواصم الإقليمية.
استثناء تل أبيب من الزيارة ليس مجرد إشارة سياسية، بل أشبه بصرخة مكتومة.

البيت الأبيض يدرك أن المشهد الدموي بات عبئًا استراتيجيًا، وأن زيارة رئيسه لمدينة ترزح تحت الاتهامات ستبدو كمن يبارك الجريمة وهو يبتسم للكاميرات.

ومع ذلك، لم تتخلّ واشنطن عن حليفتها. كل ما هنالك أنها تحاول تبديل التكتيك: أن تحكي باسم الضحية، أن تطل في ثوب المنقذ، أن تبكي على شاشة وتدعم على أخرى.

الحديث عن إيصال المساعدات الغذائية إلى غزة، المقرون باتهامات لحماس بسرقتها، ليس إلا جزءًا من هذه الرواية المنقوصة.

رواية تكتبها الإدارة الأميركية بقلم مزدوج: أحد طرفيه يوقع على خطط التسليح، والآخر يكتب خطب التعاطف.

في العمق، تدرك واشنطن أن هذه الحرب لا نهاية عسكرية لها. تدرك أن البقاء في مستنقع النار سيتحول إلى كارثة لا يمكن إدارتها لا من البحر ولا من الجو.

لهذا، تسعى بكل ما تملك من دهاء سياسي إلى ترسيم هدنة، لا لأن السلام هدفها، بل لأن الهدوء ضرورة.

في هذا السياق، تبدو زيارة ترامب أشبه بمحاولة لالتقاط الأنفاس، لترتيب الأوراق، لإعادة تموضع التحالفات على رقعة الشطرنج الإقليمي.

لكن الأمر لا يقف عند حد التهدئة. فالمطلوب هذه المرة، كما توحي التصريحات، هو أكثر من وقف إطلاق النار. المطلوب هو "نزع سلاح حماس".

المطلوب هو هندسة جديدة للواقع

الأمني والسياسي في غزة والضفة.
وكأن حماس - بما تمثله من رمزية في الوجدان الفلسطيني - يجب أن تُختصر في بند تفاوضي، تُمسَك منه الخيوط وتُقص منها الأنياب.

لكن، هل الأمر بهذه السهولة؟

هل يمكن لزيارة، مهما عظمت أجندتها، أن تفرض معادلة جديدة على الأرض، حيث لا تزال المقاومة تكتب بيانها اليومي بصوت الانفجار لا عبر بيانات السياسة؟

في نهاية المطاف، تبقى الحقيقة التي يصعب التلاعب بها هي أن الشعب الفلسطيني، بكل ما تعرض له من حصار وتدمير وتجويع، لا يزال يمسك بزمام اللحظة.

هو لا يفاوض من موقع العجز، ولا يفاوض من خلف المايكروفون، بل يفاوض بدمه وبصبره وبقوته على البقاء.

هو الذي يرسم ملامح المرحلة، شاءت واشنطن أم أبت، وهو الذي يفرض على الجميع أن ينظروا مليًا قبل أن يتحدثوا باسمه.

وها هي الحرب، كما تتكشف فصولها، لم تعد مجرد معركة سلاح، بل تحوّلت إلى حلبة صراع معقدة، تجتمع فيها نوايا الدول ومصالح التحالفات، ويُستثمر فيها الألم الفلسطيني كورقة تفاوضية، في لعبة الكبار.

ومع ذلك، يظل في المشهد شيء لا يمكن تزويره: شعب لا يستسلم، ومقاومة لا تُختزل، وحكاية لم تُكتب نهايتها بعد .   



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد