حين يتكلم الرماد
بالقلب الذي تحجره الحروب، تنمو القصص التي لا تروى بسهولة. وهذه الحكاية تبدأ من عتبة بيت في غزة، لا تختلف جدرانه عن غيره من بيوت المدينة المحاصرة، لكنها حملت في أحد أركانها طفلة لم تكن ككل الأطفال.
اسمها رهف. لا نحتاج أن نعرف الاسم كاملاً كي نعرف وجعها، فالعينان اللتان تنظران في الكاميرا، بجسد أنهكه الجوع ونحله الخوف، قالتا كل شيء. لم تكن رهف تحلم بلعبة جديدة، ولا بأرجوحة تلون ظهر الحي المدمر. حلمها كان بسيطاً حد الفجيعة: أن تسافر، أن تتلقى علاجاً، أن تعود إلى الحياة.
كانت الحرب قد فعلت ما تفعله دائماً حين تطرق أبواب الطفولة: تكسرها. قبل الحرب، كانت رهف تزن ثلاثين كيلوغراماً. كانت تذهب إلى المدرسة، ترتدي زياً نظيفاً، تضحك من قلبها. ومع كل يوم حصار جديد، بدأ وزنها يتناقص كما لو أن جسدها يختفي ببطء من العالم. في عز الطفولة، صار وزنها عشرة كيلوغرامات.
لا شيء في العالم يشبه دمعة تتدحرج من عين طفلة تقول: «كنت ألبس وأروح المدرسة». كانت الجملة بسيطة، ولكنها كسرت شيئاً ما في قلب من سمعها. لأننا نعرف، جميعنا، أن المدرسة لم تكن مجرد مكان لتلقي العلم، إنما نافذة على الحياة. وكلما تذكرت رهف تلك الأيام، كانت عيناها تمتلئان بذاكرة الضوء، وجسدها يئن من الظل الطويل الذي خلفته الحرب.
أمها التي كانت تطبخ لها كل ما تحب، صارت الآن تطعمها ما توفر في المستشفى. أمها، تلك المرأة التي لم تنكسر رغم الدمار، كانت تحاول أن تقنع طفلتها بأن الشفاء ممكن، بأن العالم لن يدير عنها وجهه بالكامل.
لكن الجسد النحيل، الممدد على السرير الأبيض، كان له رأي آخر. كانت رهف تضحك حين تبتسم أمها، تبكي حين يسقط شعرها، وتتألم كلما فشلت الأدوية في تهدئة ألم عمره من عمر ليال طالت كثيراً من قلة النوم… ليال كانت تخشى فيها الأم أن تستيقظ لتجد ابنتها الصغيرة قد رحلت.
في إحدى ليالي الحصار الطويلة، ظهرت المعجزة على هيئة تأشيرة. لم تكن الرحلة سهلة، فالخروج من غزة يشبه الولادة من جديد. رهف خرجت. خرجت من الموت، من الخوف، من غرفة الانتظار الأبدي. وصلت إلى الإمارات، ووصلت معها أمها التي لم تترك يدها ولو للحظة. هناك، كان في انتظارها أطباء، وأدوية، وأسرة حقيقية.
بدأت رحلة الشفاء، لكنها لم تكن فقط طبية. كانت نفسية وروحية، كانت ولادة من رحم الألم. في الغرفة البيضاء، جلست رهف تتحدث أمام الكاميرا بوجه أضاءه الأمل. لم تكن ابتسامتها كاملة، لكنها حقيقية. لم تعد تخاف أن تغفو، ولا أن تصحو، ولا أن تبكي. لأول مرة منذ أشهر شعرت أن هناك من يسمعها، من يهتم، من يرى فيها كائناً حياً يستحق النجاة.
هذا النور لم يأت من فراغ. جاء من تضامن حيّ، من صوت شاب قرر أن ينقل معاناتها، أن يكون وسيلة لوصول صوتها إلى العالم. وقف أمام الكاميرا، ليس من أجل الشهرة، إنما من أجل أن يقول: هناك طفلة اسمها رهف، وهناك حق يجب أن يعاد.
قالت له رهف بصوتها الخافت: «أشكرك يا عمو هاني اللي ساعدتني.» هذه الكلمات كانت بمثابة حياة جديدة، شهادة ميلاد ثانية لفتاة خرجت من الحرب نحو الأمل.
وفي أحد التسجيلات، قالت وهي تمسح دموعها الصغيرة عبارة غامضة، لكنها خرجت من قلب يتعلم من جديد كيف يحكي، كيف يشكر، كيف يولد من جديد.
وحين استعادت شيئاً من قوتها التفتت إلى من حولها، إلى الذين ساعدوها في الوصول، وقالت بصوت واثق: «أشكر كل شخص ساعدني أن أصل إلى الإمارات.» لم تكن تلك جملة تقليدية، كانت اعترافاً بوجود أناس لم يخذلوها، وجود من لا يزال يؤمن أن الأطفال لا يجب أن يتركوا وحدهم في ساحة الحرب.
في مشهد آخر، جلست الأم وفي يديها اللتين كانتا تفتحان نوافذ البيت القديم في غزة، كمشة أمل وهي تشرح للطبيب أعراض ابنتها. قالت: «كنت لما أصحى من النوم أخاف ألاقيها ما بتتنفس.» ثم أضافت بصوت خافت: «كنت خايفة أن يحدث لها شيء لأنها كانت خافتة جداً» . الكلمات نزلت مثل المطر، موجعة، لكنها غسلت شيئاً من التراكمات المؤلمة.
ومع كل فحص، ومع كل ابتسامة، كانت رهف تعود. تعود إلى الحياة، تعود إلى ضوء مختلف. تعرف أن الرحلة طويلة، لكنها بدأت. وحين سألوها عن حلمها اليوم، لم تقل شيئاً كبيراً. قالت فقط: «بحب أرجع على غزة بخير» .
كم من القوة تسكن في جملة كهذه. أن تحب المكان الذي مزّقك، أن تتعلق بوطن جعلك تغادر على نقالة، أن تحلم بالعودة إليه، لأنك فقط تنتمي إليه.
قصة رهف ليست مجرد حالة إنسانية. هي صورة حية لروح تصارع، لطفولة لم تهزم بعد، ولم تستسلم. هي تذكير أن العالم لا يزال يحتوي على ضوء، وأن فينا ما يكفي من الإنسانية لنصغي، لنشعر، لننقذ الطفولة.
هاي أمي راحت
في ردهة مزدحمة بالوجع، يقف طفل. لا أحد يسنده، ولا أحد يلقنه ما يقول. وحده يحفر بكلماته صدعاً في جدار العالم الأصم.
يرتجف صوته حين ينطق: «هاي أمي راحت» .
لا يصرخ. لا ينهار. لا يسقط أرضاً.
كأن الروح فيه تخرج متماسكة كي لا تمنح الحزن نصراً إضافياً.
في الخلفية، سيارة إسعاف كتب على مقدمتها 10، لكنها لا تنقذ أحداً هذا اليوم.
جاءت متأخرة، بعد أن غادر جسد الأم دون وداع.
ما زال عطرها عالقاً بثيابه.
ما زال جسدها حياً في ذاكرته، وإن كان العالم كله وضعها في خانة «انتهى».
قال: «وأخويا راح بداية الحرب» .
نطقها وكأنها تفصيل إضافي في قصة بلا نهاية.
جملة جاءت من طفل لا يتقن البلاغة، لكنه يعرف من التجربة ما يعجز عنه الشعراء.
يمسح عينيه بكم قميص يفيض منه الحزن.
كل شيء فيه كان صغيراً إلا مأساته.
كل شيء حوله كان هزيلاً إلا حضوره.
حين وقف أمام الكاميرا، لم يكن يبحث عن شهرة.
كان يبحث عن إجابة واحدة: لماذا؟
لماذا أمه؟ لماذا أخوه؟ لماذا الآن؟ ولماذا هو ما زال واقفاً في هذا الجحيم؟
في رفح، حيث يوزع الموت مع المساعدات.. في مدينة لم ترم فيها القنابل على ثكنات إنما أُلقيت على طوابير من الجوع والتعب.
طوابير تحاول انتزاع كيس طحين أو قنينة ماء.
الأقدام التي انتظرت دورها وقفت فوق أرض صارت بعد لحظات مقبرة.
والطفل كان هناك، شاهداً..
قال مرة أخرى: «والله يعلم مين بدو يروح كمان»!
كان يحدق في المجهول.
وكأن الموت أصبح أحد الوجوه التي يصافحها كل صباح.
موت لا يسأل عن اسمه. ولا يطلب الإذن للدخول.
أصبح روتينه اليومي عد الغائبين، إحصاء المقابر، ومحاولة تذكر المرة الأخيرة التي نام فيها دون أن يسمع هدير الطائرات. في واحدة من لحظاته، قال بجرأة لا تشبه عمره: «يا بيجي باحترام، يا ما بيجي» .
لم يكن يقصد المساعدات، ولا الطحين، ولا حتى العالم. كان يقصد الحياة.
حياة تعطى للناس بكرامة، أو لا تعطى إطلاقاً.
ثم أضاف بصوت بدأ يعلو: «إحنا مدنيين، مش عساكر» . كررها ثلاث مرات.
كأن صوته هو السلاح الأخير، وصورته هي الدليل الوحيد المتبقي. عيناه فيهما احتراق لا تصفه كتب.
كل شهقة يقولها، تحمل وراءها عمراً كاملاً من العذاب.
ليس جسده من يحمل الندوب، إنما ذاكرته.
ذاكرة تمتلئ بصور الدم، بأصوات النحيب، بأسماء الأحباب الذين كانوا معه على طاولة الإفطار، ثم اختفوا
في مستشفى مليء بالجثث، وقف وحده.
رأى الناس تركض، رأى الأطباء يصرخون، رأى الأرض تهتز تحت الأقدام. لكنه ظل ثابتاً.
الصوت الوحيد في داخله كان صوت أمه، وربما صوت أخيه.
قال لأحد المراسلين: «هاي أمي راحت» .
بهدوء مذهل، بنبرة تشبه أولئك الذين تجاوزوا الموت أكثر من مرة. هو لم يفقدها فحسب.
هو ودّع الوطن معها، ودع الطمأنينة، ودّع القدرة على تصديق أن الغد يمكن أن يحمل شيئاً جميلاً.
هذا الطفل، ابن رفح، لم يكن رقماً في التقارير، ولا خبراً عابراً في النشرات. هو شاهد. هو الحكاية كلها.
هو فصل كامل من كتاب يجب أن يقرأ بصوت عال، كي لا يقال يوماً: لم نكن نعرف.
وفي اللحظة التي قال فيها: «إحنا مدنيين»، كان يكتب بدمه وصوته وصورته ما فشلت الأمم في تدوينه.
هذا الطفل لا يطلب شيئاً. هو لا يتسول العدالة. هو فقط
كاتبة لبنانية
ارتفاع مؤشرات الأسهم الأميركية
القدر المخفي: حينما يرسم الغيب ملامح حياتنا
سلاح غير تقليدي يقضي على البعوض ويحارب الملاريا
فرنسا تعتزم الاعتراف بدولة فلسطين خلال حزيران
عروض الدرون تزيّن سماء إربد احتفاءً بالمناسبات الوطنية
أبو عبيدة: نقذف حجارة داود على آليات الاحتلال والانتصارات تتوالى
محمد رمضان يغازل قائد وجمهور الزمالك بأغنية أول أيام العيد
وزير الخارجية يلتقي نظيره البريطاني
روسيا: قيود طيران مؤقتة في مطارين بموسكو
الحملة الأردنية والهيئة الخيرية الهاشمية توزعان لحوم الأضاحي في غزة
الملك يتبادل التهاني هاتفيا مع ولي العهد السعودي بمناسبة عيد الأضحى
ثلاثة حجاج إسبان يحيون طريقًا حجريًا عمره 500 عام .. على ظهور الخيل
تنويه هام من بلدية الطيبة بخصوص مخلفات الأضاحي
التلفزيون الأردني يحذر المواطنين
عُمان تطلب توضيحاً رسمياً بشأن ما حدث بتدريبات النشامى
توجيه من ولي العهد بشأن بث مباراة الأردن وعُمان
في الأردن : اشترِ سيارة .. وخذ الثانية مجّانًا
كم يبلغ سعر كيلو الأضاحي البلدي والروماني في الأردن
مجموعة من النساء يهاجمن مشهورة التواصل أم نمر .. فما القصة
إلغاء وظيفة الكنترول بشكل كامل في الأردن
فتح باب التجنيد في القوات المسلحة الأردنية اليوم
الملكة رانيا: ما أشبه اليوم بالأمس
وفاة مستشارة رئيس مجلس النواب سناء العجارمة
أموال هؤلاء ستؤول إلى الخزينة العامة .. أسماء
خلعت زوجها لأنه يتجاهل هذا الأمر قبل النوم .. تفاصيل لا تُصدق
أسماء ضباط الأمن العام المشمولين بالترفيع