أسماؤنا القديمة: ذيبان

mainThumb

22-07-2025 11:34 PM

في الزاويةِ المائلةِ من ذيبان،
حيث تنامُ القلعةُ الرومانيةُ منذ آلافِ السنين،
وحيث يشهقُ الميركانُ بلا سقفٍ،
تنبشُ الذاكرةُ أصواتَ من رحلوا،
وتتهجّى أسماءَنا القديمةَ، كأنّها صلاةٌ غفلَ عنها المؤذّن.
أبي، شوفان،
كان مِحراثًا يدويًّا يشقُّ الهمَّ كما يشقُّ الأرض.
أحبّنا بصمتِ المزارعين.
لا يشتكي. لا يتعب.
يحمل قلقَه في كتفيه، ويُخبّئ الحبَّ في خُبزِ الشراك.
كبرَ وهو ينهض بنا...
ثم رحلَ كما ترحلُ الشجرةُ، واقفةً.
وأمّي، تلك التي كانت تعرفُ دقاتِ قلبي قبل أن أتكلّم،
خانتها ذاكرتُها في آخرِ الحكاية.
نسيتْ وجهَها في المرآة،
ونسيتْ اسمي.
لكنّها لم تنسَ الدعاء.
كانت تهمس بأسماءٍ كثيرةٍ، بعضها أموات، وبعضها نحن....ثم تغفو.

بجوارِ الميركان،
كنّا نلعبُ بين الظلالِ المهشّمة،
كأنّنا نُربّي الملوكَ تحتَ أقواسِ الحجارة.
كنا نركضُ بين آثار ميشع،
نلمسُ النقوشَ ولا نقرأُها،
لكنّها كانت تفهمنا.

كان الحاج عيد، رحمه الله،
يخرجُ من بيته بنفس السُّترة،
يُسلم على كلّ حجر، قبل أن يسلّم على الجيران.
مات، لكنّ البيتَ ما زال يفتحُ نافذته.
ما زال الهواءُ يعرف طريقَه إلى ديوانِه الطينيّ.
وأولاده هناك،
يحرسون الرائحةَ، ويُعدّون القهوة بنفس مكيالِ الذكرى.
وفي الزاويةِ المقابلة،
ما زال أبو إبراهيم يفتحُ الباب ذاته،
ويمشي الخطوة ذاتها،
بذاتِ الصمتِ الرزين.
إذا صادفك، ابتسم.
وإذا غبتَ، سألَ عنك ..........
ذيبان لم تُغادرْ.
لم تُهجرْها الأرواح.
الناس هنا... مثل الشجر:لا يُسافرون،
بل يمدّون جذورهم أعمقَ في الأرض.
في هذه الحارة،
تتناثرُ الحكاياتُ من الشبابيك،
ويشتعلُ المساءُ كلّما مرّت جارةٌ اسمُها ميثة، رحمها الله،تسألُ عن أمي وتضحك،
ثم تختفي خلفَ بابٍ يشبهُ بابَنا،
حتى لا نعرف مَن فينا الذي دخل، ومَن الذي بقي في الخارج.

ذيبان يا وجعي الجميل،
لماذا لا تنتهي الحكايةُ معك؟
حتى الحزنُ هنا له طعمُ الزعتر،
والفقدُ له رائحةُ الحطب.
والموتُ لا يُغلقُ الأبواب،
بل يتركُها مواربة، كأنّ أحدًا سيعود.
في كلّ مرةٍ أعودُ،
أمرّ من أمام الميركان،
أرفع رأسي لما تبقّى من القلعة،
وأتخيّل صوتًا يخرج من الحجرِ المهجور:
"مرحبًا، لقد كبرتَ… وما زلتَ تبكي."



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد