المتسكعون على الأرصفة الرقمية

mainThumb

18-08-2025 11:20 PM

في الأزقة الرقمية حيث يضيع صدى الكلمات، ثمة وجوه مختبئة خلف شاشات باردة، تصنع من أصابعها سهامًا من سخرية لا تنتهي.
يجلس أحدهم في غرفة ضيقة، رائحة الخمول تفوح من أركانها، وأسرته تتأفف من وجوده الذي صار عبئًا أكثر منه حياة.
لكنّه، هناك في فضاء "الفيس بوك"، يتقمّص أدوار البطولة والتهكم في آن، كأنّه خُلق ليستهزئ بكل شيء.

يستهزئ بخدمة العلم، كأنها رجس من الماضي.
ثم يسخر ممن يدعون إليها، وممن يعارضونها، وممن يقفون على الحياد.
يسخر من المقاومة في فلسطين، ويسخر من غيابها.
يسخر من شاحنات المساعدات إلى غزة، ويسخر من غيابها.
يسخر من الحكومات والشعوب والأحزاب والأفراد، كأنه قاضٍ أعلى لا يُردّ حكمه، وهو في الحقيقة مجرد ظلٍ متكورٍ على ذاته، يمضغ ملل أيامه في كلمات صفراء.

العالم يسير بدونه، لا يلتفت لضحكاته المكتوبة ولا لتهكمه المبتذل.
يمضي كما تمضي الأنهار، لا تعبأ بالحجارة الصغيرة التي يلقيها هذا العاجز من نافذة هاتفه.
كل ما يفعله أنه يشبع رغبة مريضة بالتفريغ، كما لو أنّ استهزاءه يردم فجوة الهزيمة التي تنخر قلبه.

هؤلاء هم "المتسكعون على الأرصفة الرقمية"، يصنعون من القباحة حكاية يومية.
لكن التاريخ لا يلتفت إليهم، والبطولة لا تتسع لهم، والمجد لا يليق بضحكاتهم المكسورة.
إنهم مجرد صدى عابر في جدار أعمى، لا يترك أثرًا ولا يورّث معنى.

أجمل ما قيل قديماً: "قل خيرا أو اصمت".
لكنهم اختاروا أن يلوّثوا الهواء بما لا يُسمع ولا يُحتمل.
وما لا يدركونه أن الصمت أحيانًا بطولة، وأن الكلمة المضيئة قد تكون أقوى من رصاصة، أما الكلمة المسمومة فهي لا تقتل إلا صاحبها.

في النهاية، حين ينطفئ الضوء الأزرق للشاشة، يظل هذا المستهزئ وحيدًا في عتمته، يتفقد صدى تعليقاته التي لم تغيّر شيئًا.
لم يسقط عدوًا، لم يُقم علمًا، لم يخفف عن جائعٍ ولا عن أسير.
فقط أضاف سطرًا آخر في دفتر العدم.

أما الحياة، فتمضي.
تمضي بثباتها العميق، لا تعترف بالمهرجين الذين يظنون أنهم أبطال الحكاية.
ويبقى القول: إمّا أن تصنع أثرًا بكلمة صادقة، أو فلتصمت إلى الأبد.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد