تصاعد الديون الفردية في الأردن: منظور اجتماعي

mainThumb

01-09-2025 09:38 PM

مع نهاية عام 2024 ارتفعت مديونية الافراد في الأردن لتقترب من أربعة عشر مليار دينار، وهو رقم يعكس واقعاً مالياً صعباً، لكنه في الوقت ذاته يعكس تحولات اجتماعية أعمق. ووفقاً للنشرة الشهرية الصادرة عن جمعية البنوك الأردنية، فإن حجم القروض الشخصية الممنوحة للأفراد بلغ نحو 4.4 مليار دينار بنهاية العام الماضي. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل هي مرآة لحياتنا اليومية، وللطرق التي يدير بها الأردنيون مواردهم، وللتغيرات الثقافية التي رافقت انتقالنا من مجتمع مكتفٍ إلى حد ما إلى مجتمع تطغى عليه النزعة الاستهلاكية والاعتماد على الديون.
حين أستعيد طفولتي، أتذكر الأمثال الشعبية التي كنا نسمعها باستمرا:“ مد رجليك على قد لحافك” و “خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود.” لم تكن هذه الأمثال كلمات عابرة، بل كانت قواعد عملية لإدارة الحياة والمال. كنا ندرك أن بعض زملائنا في المدرسة ينتمون إلى عائلات ميسورة، وأن ملابسهم أو مصروفهم أكبر من غيرهم، لكننا كنا نتقبل ذلك دون حسد ودون محاولة تقليدهم. كانت الكرامة والقناعة والعيش ضمن حدود الإمكانيات هي القيم الأهم. وكانت الأمهات بالذات يقمن بدور رئيسي في هذا التوازن، فهن المدبرات الحقيقيات لشؤون الأسرة. كنَّ يضبطن المصروف، ويحرصن على ألا يضيع شيء، ويضعن الأولويات، ويعملن على ادخار القليل لمستقبل الأبناء أو لمواجهة الطوارئ. هذا الانضباط والوعي المالي كانا أساس الاستقرار الأسري.
اليوم تغيّرت الصورة تماماً. فقد تسللت النزعة الاستهلاكية إلى تفاصيل حياتنا، وأصبح تأثير وسائل التواصل الاجتماعي يضاعف من خطورتها. كثيرون يسعون اليوم إلى مستوى معيشي لا يتناسب مع دخلهم الحقيقي. أصبحت الكماليات مثل الهواتف الحديثة والملابس الفاخرة والمظاهر الاجتماعية أشبه بضرورات، ولم يعد الصبر أو التدرج في تحقيق الأهداف جزءاً من ثقافة الجيل الجديد. الدعاية والإعلانات وما يُعرض عبر المنصات الرقمية رسخت لدى الناس شعوراً بأن عليهم امتلاك كل ما يرونه، حتى لو كان ذلك على حساب الاستقرار المالي أو عبر اللجوء إلى القروض.
التغيير طال أيضاً أدوار أفراد الأسرة. ففي الماضي كان أفراد العائلة يُنظر إليهم كمنتجين منذ الصغر. الأطفال كانوا يساعدون في الزراعة أو رعي الأغنام أو الأعمال المنزلية، فتتشكل لديهم قيم المسؤولية وتقدير الجهد والموارد. أما اليوم فالأبناء في الغالب لا يُطلب منهم أي دور منتج، بل يعيشون معتمدين بشكل كامل على أسرهم، وكثيراً ما يستمر هذا الاعتماد حتى بعد إنهاء الدراسة أو الحصول على وظيفة. هذه الثقافة عمّقت الفجوة بين الدخل والمصروفات، ودفعت الأسر أكثر فأكثر نحو الاستدانة.
عواقب هذا المسار لا تتوقف عند الضغوط المالية. فالأسر التي تحسن إدارة مواردها وتعيش وفق إمكانياتها، وتخطط للمستقبل وتتجنب الاستدانة غير الضرورية، تنعم باستقرار نسبي وراحة نفسية. بينما الأسر التي تستسلم للفوضى الاستهلاكية تعيش في دوامة من القلق والاضطراب. والأسوأ أن هذا الوضع المالي المهتز يترك بصماته على المراهقين والشباب، الذين ينشأون في أجواء مثقلة بالحرمان والمقارنة المستمرة بالآخرين. هذه المشاعر قد تولّد الإحباط والسخط، ما يدفع البعض إلى انحرافات سلوكية وأخلاقية، أو حتى إلى الوقوع في براثن المخدرات أو أنماط سلبية للهروب من الضغوط. إن الرابط بين الاستهلاكية المفرطة والمشكلات الاجتماعية والأخلاقية لا يمكن الاستهانة به.
التصدي لهذه الأزمة لا يكون باللوم الفردي وحده، بل يحتاج إلى جهد جماعي على مستوى التعليم والإعلام والتشريع. فمن داخل المدارس يجب أن نبدأ بزرع الوعي المالي المبكر لدى الطلبة. ينبغي أن يتعلموا كيف يضعون ميزانية، وكيف يدخرون، وكيف يفرّقون بين الحاجة والرغبة. كما يجب أن يتدربوا على قراءة الرسائل الإعلانية وتحليلها نقدياً حتى لا يصبحوا ضحايا للتأثيرات الإعلامية. ومن الضروري أيضاً أن تعود قيمة الإنتاجية إلى ثقافتنا، بحيث ينشأ الأطفال على تقدير العمل والمساهمة في الحياة الأسرية والمجتمعية.
أما الإعلام الوطني فعليه مسؤولية لا تقل أهمية. بدلاً من أن يقتصر دوره على الترويج للسلع والمظاهر، يمكن أن يتحول إلى منصة توعية. يمكن تنفيذ حملات إعلامية تشرح أخطار الإفراط في الاقتراض، وتبرز النماذج الإيجابية لأسر تعيش حياة متوازنة ومطمئنة عبر التخطيط والاعتدال. مثل هذه القصص يمكن أن تلهم الناس وتغير نظرتهم من "ماذا نشتري" إلى "كيف نعيش."
ولا بد كذلك من تشريعات وإجراءات حكومية تسهم في حماية المواطنين من فخاخ الديون. فليس من العدل أن يترك الشباب والنساء العاطلات عن العمل فريسة سهلة للقروض الاستهلاكية. المطلوب وضع قيود على التوسع في منح هذه القروض، وضمان وضوح أسعار الفائدة وتكاليف الاقتراض. كما يمكن وضع استراتيجيات وطنية لنشر الثقافة المالية، وتقديم حوافز للأسر المنتجة في الزراعة والحرف والأعمال المنزلية. هذه السياسات تدعم الاكتفاء الذاتي وتقلل من الاعتماد على الاقتراض.
على المستوى الأسري، هناك خطوات بسيطة لكنها فعالة يمكن أن تحدث فرقاً. في القرى، على سبيل المثال، يمكن للأسر أن تزرع الخضراوات في حدائق المنازل لتلبية جزء من حاجاتها الغذائية. إعداد ميزانية شهرية ومناقشتها مع الأبناء يعزز ثقافة المسؤولية المشتركة. يجب أن نعود إلى مبدأ تأجيل الرغبات والقناعة، وأن نعلّم أبناءنا أن ليس كل ما نريده يجب أن نمتلكه فوراً. كما يمكن تشجيع الأبناء على القيام بأعمال صغيرة أو تحمل مسؤوليات منزلية تغرس فيهم قيمة العمل وتقدير المال. هذه الممارسات البسيطة إذا ما انتشرت على نطاق واسع قادرة على إحداث تحول ثقافي يعيدنا إلى التوازن.
صحيح أن الوضع الاقتصادي في الأردن صعب، وأن دخول كثير من الأسر قد لا تكفي لتغطية الأساسيات، وأن التضخم يلتهم القدرة الشرائية، لكن هذا لا يعني الاستسلام للفوضى. نحن لا نتحكم بالسياسات العالمية ولا بظروف السوق، لكننا نستطيع أن نتحكم في خياراتنا اليومية. إذا جمعنا بين الانضباط الأسري والوعي الفردي من جهة، وبين الإصلاحات التعليمية والإعلامية والتشريعية من جهة أخرى، فسوف نستطيع الحد من خطورة الأزمة وتوجيه المجتمع نحو مسار أكثر استقراراً.
لقد حان الوقت لنستعيد حكمة أجدادنا. الأمثال التي نشأنا عليها “مد رجليك على قد لحافك” و“خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود” ليست مجرد تراث لفظي، بل هي دروس خالدة تصلح لكل زمان. إذا استحضرنا هذه القيم وربطناها بأدوات الإدارة المالية الحديثة، فإننا سنحمي أسرنا من مخاطر الديون، ونخفف من ضغوط النزعة الاستهلاكية، ونبني مستقبلاً قائماً على الكرامة والاستدامة. إن التحدي كبير، لكن الحلول في متناول أيدينا إذا اخترنا الوعي بدل الجهل، والاعتدال بدل التبذير، والمسؤولية بدل اللامبالاة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد