الثقافة الرقمية كدرع مدني

mainThumb

04-09-2025 11:18 PM

في الحياة الاجتماعية المعاصرة، لم يعد التواصل مجرد وسيلة تقنية، بل أصبح شرطًا أساسيًا للمواطنة والحرية. فقد ربطت النظريات الاجتماعية الكلاسيكية بين قدرة الأفراد على المشاركة في النقاش العام وبين قدرتهم على التأثير في المؤسسات التي تحكمهم. وأوضح يورغن هابرماس أن وجود فضاءات عامة مفتوحة للنقاش يتيح تشكيل الرأي العام ومراقبة السلطة، بينما يؤدي إغلاق هذه الفضاءات إلى إفقار الحياة العامة وتقييد الحرية. وفي زمن الشبكات الرقمية، طوّر مانويل كاستيلز هذا الطرح مبينًا أن القوة تُنتَج وتُنازَع من خلال شبكات الاتصال، بحيث يصبح الوصول إلى هذه الشبكات -أو الإقصاء منها- محددًا أساسيًا لمن يُسمع صوته ومن يتمكن من التأثير. أما أمارتيا سن فقد قدّم منظورًا يؤكد أن الاتصال نفسه قدرة أساسية، وأن حرية الكلام والتفاعل والمشاركة العامة ليست مجرد وسائل بل غايات إنسانية في ذاتها. هذه الرؤى جميعًا تؤكد أن توسيع الوصول إلى وسائل الاتصال لن يحقق الحرية الاجتماعية ما لم يترافق مع تنمية قدرات الأفراد على الاستخدام الواعي والمسؤول.
هذا الاستنتاج يقودنا مباشرة إلى إشكالية المعلومات المضللة. فقد أظهرت الأبحاث الحديثة أن المحتوى الكاذب أو المضلل ينتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي بسرعة وكثافة تفوق أحيانًا المحتوى الصحيح. وتفسر الدراسات النفسية هذا الأمر بتركيز الناس على عناصر الجذب والانفعال بدلًا من الدقة، إضافة إلى ميلهم إلى مشاركة ما يثير المشاعر. أما الدراسات التطبيقية فتشير إلى أن أنجع الوسائل لمواجهة هذه الظاهرة تتمثل في التعليم الذي يطور مهارات التحقق والتفكير النقدي، وفي تصميم تقني يوجّه الانتباه نحو الدقة عند النشر والمشاركة. وبعبارة أخرى، فإن الجمع بين التربية الرقمية والتطوير التقني يشكل الطريق الأكثر فعالية للحد من أخطار التضليل.
الأردن ليس استثناءً من هذه الاتجاهات العالمية. فقد وثقت دراسات محلية حجمًا كبيرًا من التعرض للمعلومات المضللة، خصوصًا خلال جائحة كورونا، حيث انتشرت شائعات حول الصحة واللقاحات عبر المنصات الرقمية. كما بيّنت بحوث أن بعض فئات المجتمع تعتمد بشكل مفرط على وسائل التواصل كمصدر رئيسي للأخبار، مما يزيد من احتمالية إعادة نشر محتويات غير دقيقة. وعلى الجانب الإيجابي، أظهرت دراسات تجريبية أن إدخال مساقات حول التربية الإعلامية والمعلوماتية في الجامعات والمدارس يعزز بشكل ملموس قدرة الطلبة على التمييز بين الأخبار الصحيحة والزائفة، بل ويزيد من جودة المحتوى الرقمي الذي ينتجونه.
إن فهم الأسباب الاجتماعية لانتشار المعلومات المضللة يساعد في بلورة الحلول. فعادة ما تستغل الشائعات فجوات في المعرفة أو ضعف الثقة بالمؤسسات أو سرعة تدفق المعلومات في المنصات الرقمية. وفي الأردن، حللت بعض الدراسات دوافع نشر الشائعات فوجدت أنها تتراوح بين البحث عن الإثارة والربح المادي، وأحيانًا تحقيق مكاسب اجتماعية أو شخصية، لكنها في النهاية تتغذى على نقص الشفافية، وانخفاض الثقافة الإعلامية لدى بعض الفئات، والتضخيم الذي تصنعه الخوارزميات. هذه الظروف تجعل من وسائل التواصل أداة يمكن أن تزرع البلبلة بدلاً من تمكين الأفراد، إلا إذا تزوّد الشباب بالأدوات التي تساعدهم على التشكيك المنهجي والتحقق المستمر قبل التصديق أو النشر.
وعليه، فإن بناء إستراتيجية وطنية لتحويل الثقافة الرقمية إلى درع مدني يقتضي عدة خطوات أساسية:
أولاً: إدماج الثقافة الإعلامية في المناهج الدراسية بشكل ممنهج: فقد أثبتت التجارب التعليمية أن تدريس الطلبة كيفية التحقق من المصادر، والتفكير النقدي في المحتوى، وممارسة أدوات مثل البحث العكسي عن الصور، يُكسبهم مناعة معرفية ضد التضليل. ولتحقيق أثر واسع، يجب ألا تقتصر هذه البرامج على كليات الإعلام بل تُدمج عبر مختلف التخصصات والمراحل الدراسية.
ثانيًا: تعزيز التعليم التجريبي: فالمعرفة تنتقل عبر العلاقات الاجتماعية، ومن هنا تأتي أهمية البرامج التي تعتمد على التدريب العملي والمبادرات الشبابية، مثل سفراء الثقافة الإعلامية، وورش العمل الجامعية، ومبادرات التحقق الجماعي. هذه التجارب تغرس عادات يومية مثل سؤال: "كيف أعرف أن هذه المعلومة صحيحة؟" قبل المشاركة.
ثالثًا: دمج التربية الإعلامية مع التواصل الصحي والخدمات العامة: فقد أثبتت التجربة الأردنية خلال أزمة اللقاحات أن المعلومات الصادرة عن خبراء الصحة أكثر جودة وتأثيرًا عندما تصل بلغة مبسطة ومنصات مألوفة. ومن هنا تأتي أهمية الشراكة بين الجامعات ووزارات الصحة والاتصال لتشكيل فرق سريعة الاستجابة تنتج محتوى موثوقًا وسهل المشاركة.
رابعًا: غرس القيم الأخلاقية في الممارسات الرقمية: فحرية التعبير ترتبط بالمسؤولية عن احترام الحقيقة وكرامة الآخرين. والتربية الرقمية لا تكتمل من دون نقاشات أخلاقية تبرز عواقب الشائعات، وتشويه السمعة، وخطاب الكراهية على المجتمع. وقد أثبتت بعض الدراسات أن الجمع بين تعليم المهارات التقنية والتربية الأخلاقية يقلل من ميل الطلبة إلى استخدام خطاب سلبي.
خامسًا: متابعة البحث والتقييم المستمر: فما زال المجال البحثي في هذا الموضوع في طور النمو، وهناك حاجة لدراسات طويلة الأمد تتابع أثر البرامج التعليمية على سلوك الأفراد في الواقع. الجامعات الأردنية تمتلك الإمكانات لتكون مراكز بحثية رائدة في هذا المجال، وتستطيع أن تساهم في بناء قاعدة معرفية محلية تساعد صانعي القرار.
إن الرسالة المركزية التي تصلنا من علم الاجتماع ومن الدراسات الحديثة واضحة: الوصول إلى وسائل الإعلام الرقمية يمكن أن يوسع الحريات ويعمّق المشاركة، لكن هذا مرهون بامتلاك الشباب المهارات والقيم والدعم المؤسسي الذي يضمن الاستخدام المسؤول. وفي الأردن، حيث يشكّل الشباب أغلبية ويُظهرون انخراطًا نشطًا في الفضاء الرقمي، فإن تبني برنامج وطني لتعميم الثقافة الإعلامية والمعلوماتية عبر المدارس والجامعات، مدعومًا بشبكات شبابية ومبادرات مجتمعية، يمكن أن يحوّل الاتصال الرقمي من عبء إلى قوة مدنية. إن الثقافة الرقمية، حين تُدرّس بعمق ومسؤولية، تصبح درعًا يحمي الأفراد والمجتمع من آثار الشائعات والمعلومات المضللة، وتفتح الباب أمام نقاش عام صحي يشكّل أساس المجتمعات الحرة والمتماسكة.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد