«بدايات» إدوارد سعيد

mainThumb

29-09-2025 10:14 AM

مرّت يوم 25 أيلول (سبتمبر) الذكرى الـ 22 لرحيل المفكر والناقد الثقافي الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد (1935 ـ 2003)، وشاءت مصادفة بهيجة أنّ كاتب هذه السطور تلقى في هذه المناسبة خبراً بهيجاً تماماً من الصديق، وأستاذنا إبراهيم السعافين: أنه أنهى ترجمة عمل سعيد «بدايات: القصد والمنهج» إلى اللغة العربية؛ ولسوف يصدر الكتاب قريباً، ضمن منشورات دار الآداب في بيروت.
ومع تثميني العالي، المعروف والمعلَن مراراً، لأعمال سعيد كافة، بلا استثناء وبدرجات تتفاوت من حيث التقدير واحتساب وظائف كلّ عمل وسياقاته التاريخية والفكرية والسياسية والثقافية؛ فإنني لا أخفي انحيازي إلى «بدايات…» على وجه التحديد، لأسباب لن يتيح المقام إلا لاستعراض أقلّ القليل بينها. وكان الكتاب قد نُشر في الولايات المتحدة سنة 1975، وصدرت طبعته الثانية سنة 1985 عن منشورات جامعة كولومبيا، وفي مسارات سعيد النقدية والفكرية يشغل العمل موقعاً وسيطاً، ويغطي مرحلة «قلقة» إذا جاز القول، بين كتاب «جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية»، 1966؛ وكتاب «الاستشراق» 1978. أي، بين انخراط سعيد في دراسة إشكالية الإمبريالية والذات والآخر من خلال الخطاب الروائي عموماً، وأعمال كونراد خصوصاً؛ وبين دراسة الإشكالية ذاتها، ولكن عبر سلطة الخطاب وسلطة الاستشراق هذه المرّة.
«بدايات…»، استطراداً، وفي قناعة هذه السطور، جدير بأن يكون العمل الأفضل من سعيد بوصفه الناقد والمنظّر الأدبي الذي أحدث أكثر من ضجّة عارمة واحدة في صفّ النظرية الأدبية وعلم الجمال إجمالاً، ثمّ على نحو أخصّ، في النظريات التفصيلية الخاصّة بالرواية، وعلم السرد، والمحدِّدات الاجتماعية والسيكولوجية والأنثروبولوجية وراء مفهوم العمل الأدبي، وما إلى ذلك.
«العمل الوحيد الذي يُعدّ طويلاً هو ذاك الذي لا يجرؤ المرء على البدء به»، هكذا قال الشاعر الفرنسي شارل بودلير ذات يوم، مشدّداً ليس فقط على مفهوم البداية بالمعنى العملي فحسب؛ بل أيضاً على مفهومها بالمعنى الإبستمولوجي لولادة النصّ إذا تيسّرت البداية، وربما ِبمَماته في المهد إذا تعسّرت البدايات. وقد يلوح للوهلة الأولى أن فكرة البداية أبسط من ذلك بكثير، أو أنها ليست على هذا القدر من التعقيد لكي تستغرق 416 صفحة من التمحيص النظري والتطبيقي، وتوظيف أفضل ما كان في ترسانة سعيد من مهارات تحليلية بارعة. غير أن قراءة فصول الكتاب، والآن بالذات ـ أي في أطوار صعود «أدب الصمت» وفنون «ما بعد الحداثة» حين يتصاعد السعي إلى تحرير النصّ من كامل مرجعياته، أساليبه وإشاراته، أشكاله ومضامينه، بداياته ونهاياته ـ تذكّر من جديد بالموجبات النظرية العميقة التي قادت سعيد إلى اختيار هذه الفكرة البسيطة، ثم معالجتها على نحو نقدي وفلسفي معمّق أبقى على بساطتها الكامنة، ولكنه كشف مستوياتها الخفيّة المعقدة. إنها أيضاً الموجبات التي جعلت هذا العمل يحتلّ مكانته كواحد من أخطر الإسهامات في صناعة المشهد النقدي الأمريكي أواسط سبعينيات القرن المنصرم، وتجعله اليوم راهناً ومعاصراً وضرورياً، ومن دواعي البهجة أن يستكمل السعافين ترجمته إلى العربية.
«ما هي البداية؟ ما الذي ينبغي للمرء أن يفعله لكي يبدأ؟ ما هي خصوصية البداية كنشاط أو برهة أو مكان؟ هل في وسع المرء أن يبدأ حينما وحيثما يشاء؟ أيّ موقف أو أيّ إطار ذهني، يعدّ ضرورياً من أجل بداية ما؟ وتاريخياً، هل يوجد نوع واحد من البرهة الكفيلة بإطلاق البداية، أو هل يوجد نوع واحد من الأفراد الذين يعتبرون البداية هي النشاط الأكثر أهمية؟ وبصدد العمل الأدبي، ما هي أهمية البداية؟ وهل الأسئلة المتعلقة بالبداية جديرة بالطرح؟ وإذا صحّ ذلك، هل يمكن أن تُعالج هذه الأسئلة أو أن يُجاب عنها على نحو ملموس ومفهوم ودالّ؟».
ومن خلال طرحه لهذه الأسئلة البسيطة ـ التي لا يطول الأمر حتى يتضح تعقيدها الداخلي ـ يوحّد سعيد عدداً من حقول اللقاء والافتراق بين الأدب والنظرية النقدية والتاريخ والفلسفة؛ فيطرح أربعة أسئلة لاحقة: بعد أيّ نوع من التدريب في وسع الكاتب أن يكتب؟ أيّ الموضوعات ينبغي أن تكون في ذهنه حين يبدأ الكتابة؟ من أيّ نقطة انطلاق سوف يبدأ: من القديم الناجز، أم من الجديد المبتكر؟ وهل توجد بداية مفضّلة في نظر الدراسة الأدبية؟ بداية مناسِبة هامّة، بعيداً عن ـ أو قريباً من ـ هذا أو ذاك من ميادين علم النفس، أو اللغة، أو التاريخ، أو الثقافة؟
وفي الفصل السادس من الكتاب، وهو بمثابة الخلاصة والنتيجة، يوضح سعيد جملة الأسباب التي تجعله ينحاز إلى مفهوم جيانباتيستا فيكو حول البدايات، وكيف أنها لا تُكتشف بل تُخلق وتُصاغ وتتفاعل وتتطوّر، وفق جدل العلاقة بين المعرفة التراثية والحدود الثقافية وديناميات المخيّلة. ويتوصّل أخيراً إلى «المنهج» الختامي، أي المفردة الثالثة في أعمدة عنوان الكتاب، فيميّز البداية عن الأصل: الأولى علمانية ومُنتَجة على نحو إنساني مستديم خاضع للفحص والتدقيق، والثاني مقدّس وأسطوري وثابت.
وليس بغير دلالة حاسمة أن البدايات تقترن بحسّ مأساوي بالفقدان وبالنقصان، لأنها في آن معاً تُكَوّن المعنى، وعنها تنجم أنظمة تشتيته.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد