ليلى المطوّع تكتب مرثيّة الماء والنّخيل
قالت: «الجميع هنا سيكتب سيرة الأرض، وأنا أكتب سيرة الماء»، وفعلتْها. فبعد ثماني سنوات من البحث في بطون الكتب والتنقيب في ذاكرة الأحياء، قدمت لنا الروائية ليلى المطوّع سيرة ماءين وليس ماءً واحداً: ماء البحر وماء الينابيع العذبة، في تماهٍ مع بلدنا ـ نحن الاثنتين ـ «البحرين» أو دلمون «الأرض الطاهرة المقدسة، أرض الخلود التي لا يوجد فيها مرض أو موت أو حزن»، والتي لجأ إليها جلجامش بحثا عن السلام والخلود.
يبدأ هذا التأريخ المائي للبحرين من العنوان «المنسيون بين ماءين» مع ملاحظة أن الروائية لم تذكر باللفظ كلمة البحرين، إلا في موضع واحد من روايتها ذات
الـ430 صفحة، حين كتبت على لسان شخصيتها الرئيسية ناديا جملة مواربة أطلقت عليها البلاغة القديمة اسم التورية «ما معنى أن أحمل البحرين في هويتي ويدفن الماء العذب والمالح». فعنوان الرواية الذي أجده موفقا، يحدد الإطار الزماني والمكاني لها، هو تاريخ المنسيين، من زمن الأساطير إلى وقتنا الحالي في هذه الأرض، التي شكّلها الماء شريطة أن تبقى في حمايته ومحاصَرة به. وكل حكايات الرواية التي تعددت يربطها خيط ناظم هو الماء (اللفظة التي تكررت مئات المرات في الرواية) بدءا من الحكاية الأولى، التي تستحضر شخصية الشاعر طرفة بن العبد أشهر شخصية بحرينية في تاريخها القديم، ولكن في ظل امرأتين هما، سليمة التي وطأت دمه ليعيش لها وليدها، بعد أن ضحت بابنتها الوحيدة قربانا لتتدفق عيون الماء من جديد، وأخت طرفة الخرنق، التي أتقنت فنون كيد النساء لتنتقم من قاتلة أخيها، فأغرت الملك بسليمة حتى قتل زوجها وهربت لتنقذ نفسها وجنينها.
وليست قصة سليمة هي القصة الأسطورية الوحيدة في الرواية، بل تنوعت أساطيرها من العربية مثل، أسطورة الدبران المغرم بثريا، إلى الأكادية كقصة جلجامش، إلى الأسطورة الفينيقية حول المرأة التي لا يعيش لها طفل، ولا تنتهي لعنتها إلا بوطء دم شريف، إضافة إلى الأساطير الخليجية وأشهرها أسطورة درياه، الذي «يعيش في العالم السفلي في البحر وفي الجحور، يقتات بجذور النباتات، يدس جذرها في فمه يشرب ماءها وينمو بضوئها، والذي انقطعت كل صلته بالعالم الخارجي، من يُرِدْه فليذهب إلى ساحل البحر ويُنادِيه. حيث اشتهر بكونه خاطفاً للصيادين».
هذه القصص مدمجة في بناء يراوح بين الماضي بأساطيره والحاضر بانعكاس هذه الأساطير على واقعه، وثنائية الماضي والحاضر ليست إلا واحدة من سلسلة ثنائيات حفلت بها الرواية بدءا بالماءين اللذين وردا في العنوان: العذب الفرات والملح الأجاج، وثنائية البحر واليابسة وصراعهما الأبدي وانتصار الإنسان لليابسة ضد البحر، وثنائية الأسطورة التي تخلق واقعا، والواقع الذي يحن إلى زمن الأساطير، لأنه صار أسوأ من الماضي. تُروى جميع هذه الثنائيات من خلال حيلة فنية حيث تلد الرواية روايات، وتتناسل من الحكاية الأم حكايات، سمّتها ليلى المطوّع أدبيات أهل الجزر أو واقعات، احتلت متفرقة نصف حجم الرواية تماما 211 صفحة (قصة سليمة 42 صفحة، قصة أيا ناصر 64 صفحة، قصة درويش 43 صفحة، قصة مهنا 62) وبعضها مثل قصة آيا ناصر، أو مهنا يمكن أن تكون أقصوصة مستقلة بحجمها وبصياغتها. كما نجد في الرواية قصصا أخرى متفرعة، وإن لم تأخذ حيّزا كبيرا مثل «سيرة عين اسمها حوز» أو «سيرة عابد الجصاص» الذي يبني المساكن في البحر، وإن كانت جميع هذه الحكايات مثل روافد مائية تصب في نهر الرواية، الذي تشكّل حكاية ناديا مجراه الأساسي.
ناديا المرأة التي تعيش في عصرنا ولكن تتمظهر فيها كل الأساطير المتعلقة بالماء، من خلال ارتباطها بجدتها، والقصص التي تركتها لها متقمصة في وجدانها، أو من خلال الواقعات المكتوبة، ولكن أيضا من خلال أحلام وكوابيس نوبات الصرع، التي كتب عنها أحمد الشحوري في غلاف الرواية الخلفي: «تبرع الكاتبة في استثمار نوبة الصرع استثمارا تقنيا لافتا، وتعمد إلى تكسير نسق علامات الوقف وخرق منطقها، لجعل ناديا تنطق عن ذاكرة جدتها نجوى»، فهذه الحيلة الفنية سمحت لليلى المطوّع أن تدفع بسردها إلى الأمام غير مراوح في فتنة الأساطير، وأتاح لها أيضا أن تربط بين الماضي والحاضر بخيط يدق أحيانا حتى لا نكاد نراه في قصص آيا ناصر ودرويش، ويسمك حتى نمسكه بأيدينا في قصة مهنا أحد أجداد ناديا، وتكاد تصرح هذه الشخصية الأساسية، بأنها ليست سوى انعكاس مرآتي لحيوات أشخاص حقيقيين، أو أسطوريين عاشوا قبلها على هذه الأرض المحاطة بالماء فتقول في الرواية، «هذه ذكرى نبتت في ذاكرتي، فجأة، وصارت واضحة.
وهذه معاناة جديدة. رأسي مثقل بذكريات، في أحيان أشعر بأنّها ليست لي، بل لشخص آخر واقتحمت ذاكرتي». فهذه الشخصية الأساسية صوت سارد متواز أحيانا ومتقاطع أخرى مع جميع الحكايات الواردة في الرواية، سواء عبر رابطة الدم (مهنا، الجدة) أو عبر ما تراه في نوبات صرعها، أو عبر شغفها، بل هوسها بتتبع تحولات البحر واليابسة. ولناديا نصيب أيضا من لعبة السرد متعددة الأصوات، فما بين ضمير الغائب وضمير المتكلم والحكايات المدونة في الواقعات، يعود صوتها بين فصل وآخر ليعيدنا إلى الحاضر بتغيراته التي كانت – للأسف – كارثية، «دمرنا كل شيء! كل هذا انتهى؛ لأننا نحن البشر بحاجة دائمة إلى المساحة، وإلى التوسع ماذا يعني جرف آلاف النخلات؟! وقطع مئات الأشجار وتدمير البيئة والاستيلاء على أرض كانت للمخلوقات التي تحيا معنا في هذه الجزيرة؟!»، بل هناك مقطع نجد فيه تماهيا بين ليلى المطوع وناديا، حتى إننا لا ندري صوت من الذي يقول «لم خذلنا البحر؟ لم سمحنا بكل هذا؟ ما معنى أن أكون ابنة الجزيرة وألا أنهض من غفوتي إلا والبحر تلاشى؟ ما معنى أن أحمل البحرين في هويتي ويدفن الماء العذب والمالح»، مقابل صوت أيوب زوج ناديا، الذي له رأي مغاير يتّسق مع الذين يرون أن النخل يجب أن يجرف لأنه يستهلك كثيرا من الماء، ويرون أن هناك كثيرا من المساحات المائية فلا ضير أن تَقضم منها الأرض ما قدرت عليه، فيقولون بلسان أيوب: «ولكن ماذا يعني البحر؟ إنه في كل مكان؟ المعجزة أن نبني يابسة عليه، وأن نسكن البحر، نطوّعه ليكون تحت خدمتنا».
للنخلة حضور طاغ في رواية «المنسيون بين ماءين»، فهي توأم الماء كلاهما تعرّض لجور الإنسان، رغم أن وصية الأسلاف كانت «لا تنم في أرض لا نخلة فيها»، ورغم ما كان يعتقد من خلود النخلة لأنها شربت الماءين: الماء العذب والمالح. وترسم لنا الروائية في كلمات معدودة سيرة ذاتية مؤلمة لهذه الشجرة، التي تعد عمّة الإنسان، تكتب عنها: «كنت شجرة مقدسة، ثم شجرة ذات خير، ثم توجر بي، زيّنت الشوارع وعطشت، وعُرِّضت للأسر، واقتلعوني وعيناي إلى السماء أنتظر منها قطرة ماء» فرغم أن البحر ردم فازداد حجم الجزيرة بمقدار الضعف إلا أن مصير النخيل كان عكسيا، تناقص حجمه وتحولت جزيرة المليون نخلة إلى جزيرة النخلة اليتيمة، التي ستلاقي مصير أخواتها رغم عنادها. وما يعزي النخلة أنها ليست الوحيدة من لاقت مصيرا أسود على يد ما يُزعم أنه تحضّر وتطوّر، فالجزيرة كلها تغيرت «لا ساحل بقي على حاله كل السواحل صارت مدفونة، لا تلة لا وادي، لا محميات لأشجار القرم، ولا تلال أثرية، لقد جُرِف كل شيء، وأزيل تاريخ الأرض لبناء المجامع التجارية والمطاعم ودكاكين تبيع مستلزمات منزلية لا يحتاج الناس إليها».
وتبقى المرأة حاضرة في الرواية في كل تفصيل من سليمة إلى ناديا مرورا بنساء كثيرات مثل، نجوى الجدة، وتنثر الروائية في صفحات روايتها علاقة النساء الملتبسة بالبحر، يتجلى ذلك أكثر ما يتجلى في طقوس عودة الرجال من رحلة الغوص، حيث تكشف النسوة أجسادهن للبحر ويركضن على الساحل وهن يصرخن بأصوات مرعبة يلفحن بشعورهن يخضن الماء عاويات، عسى أن يخشاهن البحر، وهو طقس لا حضور ذكوريا فيه، فهناك «اتفاق ضمني في الجزيرة على ألا يخرج الرجال حين تواجه النسوة البحر»، وهي مواجهة فيها كثير من التحدي يصل إلى درجة أنهن يكوين البحر برأس السعف المشتعل لعله يتوب ويعيد أحبابهن. ورغم ذلك فالعلاقة ليست دائما صدامية بين البحر والنساء، إذ منحهن البحر القدرة على نقل الأخبار من خلال الموج، فكلما حركن شعورهن بشكل أقوى ناحية اليمين مالت السفن يسارا. وهن ينادين بصوت عال: يا بحر يا بحر، «وكلما صرخت امرأة ارتفع موجه عاليا».
«المنسيون بين ماءين» حكاية وطن لم يفِ للبحر فتنكّرت له اليابسة، كتبتها روائية وصفت نفسها في آخر سطر من روايتها بأنها «الطائر الحزين، كلما قل الماء، بان الحزن على وجهي».
شاعرة وإعلامية من البحرين
الحوثيون يستهدفون إسرائيل بصاروخ بالستي ومسيرتين .. فيديو
أورنج الأردن ترعى مؤتمر Evolve لدعم الشباب
%29 نسبة تراجع الناتج المحلي الإجمالي في فلسطين
مسيرة إسرائيلية تنفذ غارة على بلدة عيترون جنوبي لبنان
فصل مبرمج للتيار الكهربائي عن مناطق في عجلون الثلاثاء
سناب شات يفرض حدوداً جديدة لتخزين الذكريات
ابوزيد : اعلان المقاومة عن موقع اسرى هذه اسبابه
علم فلسطين يتسيد العالم في يوم العلم
وفاة زوجة المرجع الشيعي السيستاني
ندوة بمعرض عمان تناقش الهوية والانتماء عبر أدب اليافعين
المعونة الوطنية: إطلاق خدمة المعونات الطارئة إلكترونياً
الاعتراف بدولة فلسطين: رمزية أم تغيير في قواعد اللعبة
واشنطن تقر دواءً لعلاج التوحد وسط تحذيرات من ترامب للنساء
الذهب يصل إلى أعلى مستوى له بتاريخ الأردن
خدمات الأعيان تتابع تنفيذ إستراتيجية النقل العام
الأحزاب والمالية تشيدان بخطاب الملك بالأمم المتحدة
الزراعة النيابية تؤكد أهمية فتح أسواق خارجية وتعزيز الأمن الغذائي
من يسار الصحوة الأميركية إلى يمين الترمبية
دراميات صانعي السلام .. إنقاذ اليهود
عطية يطالب الحكومة بتجميد قرار رفع الرسوم الجامعية في جامعة مؤتة
هل يُعدّ الباراسيتامول خياراً آمناً للنساء الحوامل