غزة انتصرت ..

mainThumb

06-10-2025 02:40 PM

في صباحٍ رماديٍّ من غزّة، كانت أمّي تُعدُّ قهوتها على نارٍ خافتة، وتقول لي: "اسقِ الزرع قبل أن يأتي القصف."
خرجتُ، وكان الحيُّ نصفه ركام، ونصفه ذاكرة.
لم أعد أفرّق بين بيتٍ هُدِّم بالأمس، وبيتٍ كان مهدومًا منذ البدء.
في الزقاق الصغير، رأيتُ طفلاً يركض بحذاءين مختلفين، يضحك. قال لي: عمو، كتلوا ستين ألف منّا، لكننا بعدنا هون!
ابتسمتُ. لم أجد جوابًا يليقُ بطفلٍ يتكلّم كقائد جيش.
على الجدار، كُتبتْ بخطٍّ مرتجفٍ جملة:
"هنا سقط حلم، ونهضت راية."
من قال إن الانتصار يُقاس بعدد الذين بقوا؟
في غزة، يُقاس الانتصار بعدد الذين لم يرضخوا.
ألفُ جنديٍّ إسرائيليٍّ سقطوا في الأرض التي قيل إنهم سيطهّرونها بالنار، فسقطوا فيها رمادًا.
وألفُ مقاومٍ وقفوا في وجه جيشين، جيش الحديد وجيش الكذب، ولم ينحنوا.
كانوا قلةً، نعم، لكن القليل حين يؤمن يصير كثرة.
في وجوههم رأيتُ ضوءًا لا يُشبه الضوء؛ خليطًا من الخوف والإيمان واليقين بأنّ العدالة تمشي ولو على رُكام.
أما الذين استُشهدوا من الأطفال والنساء والشيوخ، فهم لم يُهزموا.
من يُهزم هو من ينسى، لا من يُدفَن على أرضه.
هم حطبُ الحكايةِ التي ستُروى للأجيال القادمة:
أنّ أقوى قوتين في العالم لم تستطيعا إخماد نارٍ اشتعلت من حجرٍ صغير، من كفٍّ فقيرةٍ رفعت علمًا لا يسقط.
يقول أحد المقاتلين — وهو يربط جرحه بقطعة من قميصه —:
نحن لا نحارب لننتصر، نحارب كي لا نموت صامتين.
هكذا، بين دخانٍ ودمٍ وترابٍ، فهمتُ أن غزّة لا تُقاس بخسائرها، بل بما تبقّى فيها من حياة.
ستون ألفًا من المدنيين قُتلوا، نعم، لكنّهم صاروا ستين ألف شاهدٍ على أنّ الوحش حين يُطلق النار على الطفولة، يفقد آخر ما بقي له من إنسانية.
أما المقاومة، فبقيتْ، تُنقّب في الظلام عن بصيصٍ من فجرٍ جديد.
قتلت ألفًا من جنودٍ مدجّجين، وسجّلت ألف دليلٍ على أنّ الأرض لا تُهزم حين يكون فيها رجلٌ واحدٌ يقول: لن أرحل.
في آخر الليل، حين سكنت الأصوات، كتبتُ على جدارٍ لم يسقط بعد:
هنا، قاوموا. وهنا، انتصروا.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد