الضفة على وتر الصبر

mainThumb

13-10-2025 12:56 AM

في الضفة، لا تغيب الربابة، لكنها باتت تُغنّي للوجع لا للمجد.
يمشي الفلاح الفلسطيني بين أشجار زيتونه كما لو أنه يمرّ في متحف للندوب. حجارة الأرض تحفظ أسماء من مرّوا فوقها، والريح تحفظ أنينهم. في كل طلعة شمس، يهبط المستوطنون من سفوح الإسمنت، يحملون أسلحتهم كما يحمل الطفل لعبته، ويمرّون بين القرى كأنهم يتدرّبون على طقوس الغطرسة.
يضحكون بصوتٍ مملوءٍ بالملح، ويتركون خلفهم أجسادًا مكسورة وأرواحًا تُرمّم نفسها بالصبر.
في زقاق نابلس العتيق، ترى الفتى ابن السادسة عشرة يُلقي حجراً خجولاً على ظلٍّ داهمه. كان يريد أن يقول: أنا هنا.
لكن الظلّ كان مدججًا، فانهال عليه ركلاً وصفعًا، بينما الشيخ الثمانيني وقف كوتدٍ من زمنٍ آخر، يرى المشهد ولا يستطيع أن يصرخ، لأن الصرخة في فلسطين تُحاسَب بتهمة “التحريض”.
أما الحجارة، فهي وحدها التي تفهم معنى الكرامة حين تُقذف دفاعًا عن شجرةٍ عجوزٍ اسمها الأرض.
هنا، كل بيت يملك حكايةً عن يدٍ امتدت لتسرق عنقود عنب، أو لتدفع بابًا في منتصف الليل.
وكل أمٍّ تعرف صوت الفوضى قبل أن تصلها، الفوضى التي تلبس خوذةً وتحمل علمًا أزرق ونجمةً حديدية.
حين يأتون، لا يسألون عن أحد، ولا يعتذرون لأحد، فقط يخلّفون وراءهم الغبار، والريح تحمل رائحة البارود، ثم تفرّ إلى الجبال وكأنها تخجل من نفسها.
يقول أحد الشيوخ في جنين:
نحن نُصلّي كي لا نكره، لكنهم يختبرون حدود الصلاة كل يوم.

الفلسطيني اليوم لا يحمل سيفًا، بل ذاكرة.
يمسح الدم عن جبين ولده ويقول له: اهدأ يا بني، فالغضب صار تهمة.
يبتلع القهر كمن يشرب ماءً مالحًا كي لا يموت عطشًا.
في كل مساء، تُضاء القرى على قصصٍ لا تروى للإعلام، بل تُروى للسماء.
سماء تعرف تفاصيل الأيدي التي تُغرس في الطين لا لتزرع، بل لتثبت أنها باقية رغم كل شيء.
وفي المقابل، حين ترفع إسرائيل يدها لتُهدّئ المستوطنين، فإنها تُهدهد الوحش لا لتكبحه، بل لتُنعشه.
تزورهم بالسلام، وتُحيطهم بجنودها كما تحيط الأم ابنها المُدلّل الذي أفسد كل شيء، لكنها ما زالت تراه ملاكًا.
هكذا، يُصبح الفلسطيني هو الجاني إن بكى، والمعتدي إن صرخ، والمُعاد للسامية إن دافع عن قبر أبيه.
لكن في هذا الخراب، يولد نوع جديد من الهدوء.
هدوء يشبه سكون ما قبل الانفجار، أو صمت من يعرف أن الظلم لا يُعمّر إلى الأبد.
يتناقل الناس الحكاية كما يتناقلون الخبز:
عن امرأةٍ وقفت أمام بيتها وقالت لمستوطنٍ مدججٍ بالبندقية:

“خذ الطريق، واترك لي الشجرة. لا أريد سوى ظلّها.”
فأدار وجهه وضحك، ومضى.
لكن ظلّ الشجرة بقي في المكان، ينمو، يطول، حتى غطّى الطريق كلّه.

ربما هذه البلاد لا تُقاوم بالسلاح وحده، بل بحكاياتٍ تصمد أكثر من الدبابات.
وحين تُغنّي الربابة هنا، فإنها لا تروي بطولاتٍ قديمة، بل تسجّل أعمارًا تُسرق يومًا بيوم، وكرامةً تحاول أن تتنفّس وسط ركام الكلمات الكبيرة.
الضفة اليوم على وتر الصبر،
لكن الصبر ليس ضعفًا، بل شكلٌ آخر من أشكال المقاومة،
مقاومةٍ لا تحتاج بندقية، بل ذاكرةً لا تموت.
فكما قال أحدهم ذات وجع:
البلاد التي تفقد حكاياتها، تموت بردًا.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد