حين طبع العربي

mainThumb

20-10-2025 12:04 AM

في مساء لا يختلف كثيرا عن أمسياتنا هذه، جلس شيخ منسي في أطراف الذاكرة، يحدق في خرائط العرب التي صارت تشبه جلد الفرس بعد الترويض: خطوط منكسرة، وألوان باهتة، وقلوب فقدت الصهيل. قال الشيخ بصوت يشبه الحنين:
"ما أشبه حالنا اليوم بحال الجواد بعد أن طبع."

كان يقصد أن العربي، مثل ذاك المهر الذي وضعت على ظهره قطعة قماش في البدء، لا ليخدم، بل ليختبر. لم يشعر بثقلها في البداية، ظنها مداعبة عابرة، ثم صارت عادة، ثم أصبحت لجاما، ثم سوطا، ثم صار يركض بأمر غيره.

وهكذا نحن.
تعلمنا أن نكذب الصادق، ونصدق أول ما يلمع على شاشاتنا.
صرنا نصفق قبل أن نفكر، ونغضب قبل أن نفهم، ونحكم قبل أن نعرف.
تحولنا من أمة تسوس الخيل إلى أمة تقاد بالهاشتاغات.

غزة، التي كانت رمحنا المكسور، صارت ميدانا نفرغ فيه تردداتنا:
نحبها حين تنتصر، وننساها حين تنزف.
نرثيها على تويتر، ونساومها على تيك توك.
في الصباح نرفع رايتها، وفي المساء نشتمها لأنها لم تمت على المقاس الذي نريده.

تثيرنا مقاطع مقطعة الصوت، نصدق أي نبرة حزن أو تهديد، نغضب لجملة مبتورة دون أن نعرف ما قبلها أو بعدها.
صار العربي يكره الحقيقة لأنها لا تناسب مزاجه اللحظي.
ويعارض، لا لأنه يملك رأيا، بل لأنه يخاف أن يمر عليه اليوم بلا معركة في التعليقات.

أمتنا اليوم كفرس أنهكت بالشكائم والسياط، تظن أن الركض نجاة، بينما هي تدور حول ذاتها في حلبة صغيرة من الغضب والضجيج.
نبحث عن الموحد فلا نجده، لأننا لم نعد نثق إلا بما يقوله الهاتف.
نرى الكذب فنتبعه، لأن الحقيقة فقدت جمهورها.

كل ما حولنا يذكرنا بتلك الجياد التي تحدث عنها السائس القديم: كانت جموحا نبيلة، فأصبحت وديعة مطواعة بلا أنفة.
ذلك هو حال العربي، بعد أن طبع، بعد أن تعلم أن يقاد بلا سوط، بعد أن أقنعوه أن الترويض حكمة، وأن الاستسلام واقعية.

إن أخطر ما أصابنا ليس العدو، بل القابلية لأن نقاد بأضعف المؤثرات، وأن نحمل رأيا كمن يحمل هاتفا، يشحنه حين يفرغ، ويبدله حين يمل.

لقد صار العربي يشبه فرسه المروضة:
يأكل من يد من كبلّه،
ويغضب إن حاول أحدهم تذكيره بالسهول التي كان يعدو فيها حرا.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد