العشائرية والقانون والدولة

mainThumb

20-10-2025 10:25 AM

العشيرة كيان ينبثق من القبيلة، والقبيلة كيان أكبر يضم مجموعة من العشائر تنضوي تحت لوائها، وهي قديماً نشأت في بيئة لا تصلها الدولة، ولأنها نشأت في غياب الدولة، كان لابد لها من ابتكار نظام يضمن حقوق الأفراد والمجتمع، حتى لا يقع الجميع في فوضى يأكل فيها القوي الضعيف، وتختل موازين العدل، وتنتشر الفوضى.
يرأس هذا النظام التوافقي، رجل كبير في السن أو كبير في القدر، تكون مؤهلاته ليست شكلية كالعباءة والحطة والعقال، ولا التنقل بين المناسبات الشعبية والحكومية، بل يتمتع بمؤهلات جوهرية، مثل معرفة مقاطع الحق، وامتلاك زمام اللغة للتعبير عن الحق، والجرأة على الجهر بالحقوق وإلزام الأطراف بها، ثم متابعة تنفيذ الأحكام، والأساس أن يكون للشيخ غير ما سبق عشيرة تدعمه ولا تخالف رأيه، وإذا احتاج الى مال ينهي به خلافاً يجمعون من أموالهم ويعطونه.. لا لسلطته عليهم، بل لأنه اذا احتاج أحدهم أو وقع في "حَمالَة" يكون الشيخ هو المعين بعد الله.

إذن شيخ العشيرة فرضه واقع معين، بعيد عن سيطرة قوانين الدولة، وهو يقدم خدمة عظيمة تتمثل في ضبط المجتمع والمحافظة على حقوق الأفراد بكبح التعدي على الضعفاء وخلق التوازن في المجتمع العشائري.
لكن ما بقي من النظام العشائري الحقيقي في وجود الدول هو شكل باهت لا يخدم الأفراد، ولا الأفراد يدعمونه، وأصبح كالثوب الذي تخلعه الأفعى لتعيش حياة جديدة، صحيح أنه يشكل ملامح خافتة منها، لكنه ليس هي، فإذا هبت ريح قوية أو داهمه قطيع تمزق وطار في الريح..!! هذا ليس تجنياً على العشائرية بل واقع نعيشه، إذا استثنينا من الحكم الرابطة الإجتماعية التي تلظم الأفراد بسلكها، وليس لها سطوة قانونية كما كانت قبل وجود الحكومات..

إذن لماذا تصر الحكومات وقبلها الاستعمار الغربي على التثبث بالعشائرية مع أن الاستعمار جاء لإبعاد الأفراد عن العشائرية الحقة، وعمل على تخريب دورها الضابط للأفراد والمجتمع من خلال مجموعة قيم ترسخت عبر القرون، طبعاً السبب هو السيطرة على الناس دون أن يستخدموا قيم العشيرة الحقيقية!! فقط تركوا للناس "جلد الأفعى" بعد أن قتلوها.. ثم أن المجتمع العشائري الآن لم يعد مجتمعا مغلقاً بعد أن طوت ثورة المواصلات والاتصالات المسافات و"النت"، ووصلت الدولة وقوانينها إلى كل مكان والى كل فرد بعينه، واختلط الناس وغاب شيخ العشيرة بمواصفاته التي ذكرناها، ما جعل الكثير يتطفل على صفة الشيخ، المفرغ من مضمونه ولم يبق إلا الشكل "جلد الافعى"، وهذا الشكل يستطيع أي شخص تقمصه بلا تكاليف بل قد يترزّق بشكله عند الدولة، وفي هذه الحالة لا يهمه إن أقره أفراد عشيرته أم لم يقروه بالتشيخ عليهم، وسيان عنده إذا دعموه بالمال أم لم يدعموه، المهم أن يدعى للمناسبات الحكومية ويظهر بالمناسبات كشكل منمق !!.

لذلك أرى أن المجتمع يتنازعه تياران، تيار العشيرة التي أصبحت مجموعة أفراد لا ينظمهم قانون وليس لهم مرجعية تربيهم على المروءة والنجدة، ويلجؤون اليها إذا تعرضوا لموقف يحتاج التصرف، وتيار الحكومة التي تملك القوانين وتملك تطبيقها مما يجعل الفرد في حالة فصام، الولاء الشكلي للعشيرة، والخضوع لقوانين الدولة، وهذا يجعل الأفراد غير الواعين يتمردون على القوانين معتزين بالاسم الذي يحملونه، ويعتدون على الآخرين وهم يظنون أنهم يتكئون على عشيرة تحميهم حتى من الدولة، ثم يكتشفون أن الشيوخ الذين نصبوا أنفسهم لا يستطيعون تجاوز القانون، ويدورون في دائرة ضيقة لا تتعدى مدير الشرطة والمتصرف، وحدودها تكفيل الفرد، أو تشكيل جاهة، للتفاهم مع العشيرة الثانية، حتى يبقى الأمر بين الشخصين أصحاب المشكلة، ثم القانون يأخذ مجراه، وكل ذلك يوثق عند الأمن والخاسر هو الفرد الذي يظن أنه يعيش في صحراء مقطوعة عن العالم..

النفخ بالعشائرية، وإعطائها صفة، لا تدعيها هي وهي تعرف أنها لا تستطيع تجاوز القانون والدولة، ما يجعل بعض الجهال يتمادى على القانون ويعرض أبرياء لاعتداءات، لتوهمه أن العشيرة تحميه حتى لو كان مذنباً، ولماذا يتضرر اسم عشيرة ويتضرر أفرادها نتيجة أشخاص مستهترين افتعلوا مشكلة باسم العشيرة، لجهلهم بالقانون وبواقع العشائرية في وجود الدولة والقانون.. وما دام الجميع مرجعه الى الحكومة والقانون، فلماذا تغررون بالشباب الصغار، وتجعلونهم ينظرون الى أخوانهم في الجامعة أو العمل ك"أغيار"، لا يتساوون معهم بالمواطنة, ولا بالحقوق، وأن الاصطدام معهم حتمية لابد منها، لان ما يدور برؤوسهم خيال مات واقعه قبل مئة سنة!!.

العشيرة رباط اجتماعي ندعمه ونحافظ عليه ونعتز به، وهو لم يوجد للتفاضل والتنمر الاجتماعي، بل للتواصل والتعارف.. قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) الحجرات.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد