اليمن .. وإشكالية تأسيس دولة مدنية

mainThumb

27-05-2016 03:52 PM

 نحو قرن من الزمن اليمنيون يزحفون في الرمال المتحركة وكأن عبقرية المكان ولعنة ‏الزمان ملازمة لؤد حلم اليمنيون في دولة مدنية في كل محطات التاريخ السياسي الحديث ‏لليمن ، ويكاد يتمحور الإشكال الأساسي للنُخب السياسية المتعاقبة وصراعاتها لتقاسم ‏السلطة وكأنه داء لازم الحالة اليمنية بفقدان بوصلة المصلحة في بلد الإيمان والحكمة ‏فتكالبت الأمم علينا مثل تكالب الأكلة على قصعتها منذ تأسيس الدولة اليمنية الحديثة مطلع ‏القرن الماضي مروراً بحرب الستينيات غدة ثورة سبتمبر وإلى يومنا هذا ، ولعل العامل ‏المشترك هو عقدة المركِز المُقدس والذي فطن إليه اليمنيون بضرورة وجود دولة مدنية ‏اتحادية حسب مخرجات الحوار الوطني الذي طال أمدة غداة الربيع العربي في نسخته ‏اليمنية ، ولو كان تم ذلك غداة إعلان الوحدة لتجنب اليمنيون خسائر كانوا في غناء عنها ، ‏لان المشهد السياسي اليوم يُراد له ان يحل كل إشكالات اليمن المتعاقبة كمن يريد ان يغرف ‏كل ماء البحر في إنا صغير !‏

 

وعلى قاعدة ما بُنى على باطل فهو باطل فقد رافقت ثورة الستينيات جملة من الأخطاء دفع ‏ثمنها اليمنيون إلى اليوم فأفرز نظاماً جمهورياً شكلاً بمضمون  قبلي وراثي وجهوي في ‏بعض مراحله.. فغدا القوم يتناوبون مقاليد الحكم دون بصيرة ومشورة فتراكم أخطاء النُخب ‏الحاكمة بتحالفها  بالمؤسسة القبلية حيناً والإسلام السياسي حيناً آخر مرةً مع الاصلاح( ‏حرب 94م) ومؤخراً مع الحركة الحوثية غداة ثورة 2011م .‏
 
فالبدايات الارتجالية التي رافقت إعلان الوحدة كانت وبداهةً مألآتها سيئة عندما  هرول ‏طرفي الوحدة لتوحيد شطري اليمن برؤية إقصائية انتهت بتلك الحرب التي أسست لما ‏عُرف بالحراك الجنوبي .‏
 
وخلال اقل من أربعة عقود شهدت اليمن سلسلة من الحروب فحرب تلد أخرى فقد آلت ‏تناقضات مرحلة ما بعد الوحدة لانفصام عُرى الوحدة التوافقية لأنها في الأصل تقاسم ‏السلطة أيضاً ..‏
 
تماماً كصراع قيادات ثورة سبتمبر في بداية الستينيات التي أفرزت في نهاية المطاف ‏اندماج رؤيتين ملكية وجمهورية في نظام مُسخ غدا يحاكي  جمهوريات العسكر العربية ‏الوراثية .‏
 
الديماغوجية واللعب على عواطف الجماهير كانت السمة الأساسية لنحو عقدين من الزمن، ‏عندما روج الخطاب الإعلامي تحت شعار (الوحدة أو الموت ) وتحت راية الوحدة التي هي ‏‏(حق أريد به باطل) يستنسخ نفس الخطاب اليوم وتحت شعار مقارعة العدوان والسيادة ‏اليمنية .. فملابسات وتأمر الدولة العميقة غداة الخروج الشكلي للرئيس السابق من السلطة ‏تحولت خارطة التحالفات فغدا الحلفاء خصوم بينما تحالف خصوم الستة حروب في خندق ‏واحد في خطاب ديماغوجي مفضوح وبالتالي تغير الحلفاء الإقليم ، وبقدرة قادر‎ ‎تحولت ‏البوصلة الوطنية من  الرياض لطهران في مشهد سريالي أربك المراقب والراصد للحالة ‏اليمنية الفريدة ، فترك الزعيم راية القومية التي تحالف مع صدام حسين وعلى أساسه انحاز ‏له في غز الكويت وخسر اليمنيون دول الخليج ، لكن اليمن صحيح خسرت الكثير وطرد ‏اليمنيون من بلدان الخليج لكننا كسبنا الزعيم لفترة حكم إضافية !‏
 
غداة ثورة الربيع العربي في نسخته اليمنية تأمرت دول الإقليم التي احتوت انتفاضة الشعب ‏اليمني لتمنح حصانة من لا يملك إلى من لا يستحق فحملت مبادرة الخليج بذور فنائها في ‏طياتها ..‏
 
تلاحقت الأحداث في مسلسل درامي مؤسف خلال السنوات القليلة الماضية فآلت الأمور ‏لإسقاط صنعاء تحت أسنة الرماح ، فشهدت المرحلة الانتقالية للربيع العربي تدوير للفساد ‏والدولة العميقة فتقاسمت كعكة السلطة ، وهاهي اليوم تفرز طرف ثالث يهرول لاقتسام ‏مغانم السلطة بعد أن ساهم في تأكل الدولة وفي حال تحققت هذه الرؤية على أساس (قسمة ‏ضيزى) سيكون الخطاء الثالث خلال نصف قرن من الصراع على السلطة  فغدت سمة ‏الأنظمة المتعاقبة هي مكافئة الجلاد بإشراكه في الاندماج تحت مسمى (التوافق) لكنه هذه ‏المرة بنغمة طائفية مناطقية مقيتة تحت رعاية أكثر من طرف إقليمي لان ساسة اليمن أثبتوا ‏بأنهم مجرد إيقونات في لعبة الأمم ، ومعاناة اليمنيون مرارة اختلاف تلك النُخب هاهم أيضاً ‏يتجرعون كأس هذا التوافق بتدوير العنف وتأجيل الصراع لأجل غير مسمى على خُطى ‏تجارب لبؤر عربية وبمباركة المجتمع الدولي .!‏
 
ولان السعيد من يتعظ بغيره فينبغي بداهة بأن يستفاد الشعب اليمني من تعثرات مراحل ‏سابقة في جزئية تقاسم السلطة فإذا كان حواراً لعام كامل قد انتهى بسقوط صنعاء وتجاوز ‏كل الخطوط الحمراء بفرض منطق الغلبة فكيف يراد توافق على خلفية حرب ضروس ‏لأكثر من عام تداخلت فيها جملة من الاعتبارات السياسية والاقتصادية والدور الإقليمي فلا ‏استقرار في اليمن إلا بزوال مسببات هذه الحالة وتواري الفاعلين الأساسيين الذي أوصلوا ‏اليمن لما آلت إليه ، وعليه فلا مناص من تطبيق القرار الدولي الأخير الخاص باليمن والذي ‏صدر بتوافق دولي لا نظير له  .‏
 
اليمنيون لا يريدون سلام بأي ثمن ، بل سلام على أسس سليمة بدون ترحيل الصراع ‏لمحطات محتملة فتجريب المجرب ضرباً من الحماقة ومن هنا فان المستقبل لن يكون آمناً ‏إلا بتواري طرفي الانقلاب أولاً ومن ثم التهيئة لانتخابات في أجواء آمنة كي يؤسس لدولة ‏مدنية طالما انتظرها اليمنيون فلا يُعقل ان يصوم اليمنيون حيناً من الدهر ليفطروا ببصلة !‏
 
خلاصة الربيع العربي المشوّة في اليمن يتمحور في دور ثلاث شخصيات فاشلة أجرمت ‏بحق اليمن فالأول ضغينة وأحقاد الرئيس السابق الذي جردته الثورة من شرعيته ، لكنها ‏لم تجرّده من أسباب قوته ، فقد سلم كرسي الحكم ولم يسلم السلطة بدليل ان اليوم يلعب ‏دورا وهو لا يُمثل أي شرعية ، وهو الأمر نفسه تهور وحماقة جماعة فتية صاعدة ‏وعاجزة في نفس القوت فميليشيا الحوثي التي لم ترقى حتى لحزب سياسي مدني اعتقدت ‏، بأهليتها ومشروعيتها في السلطة من أفكار بالية طائفية سِلالية مستندة لكتب صفراء ‏وكأنها تعيش‎ ‎القرون الوسطى وليس الألفية الثالثة ، ، بينما الطرف الأخير في هذه المأساة ‏هو الرئيس هادي وهو من سهل لهذه الميليشيا القادمة من أحقاد التاريخ لممارسة دوراً ‏فوضوياً بقوة السلاح والقفز على الإجماع وإعادة اليمن للمربع الأول وانزلاقه لحرب ‏أهليه ، هذه الجماعة نشطت في ظل وجود رئيس ضعيف كهادي الذي لم ينجح في إدارة ‏المرحلة الانتقالية ، وتأمر من حوله وعلى رأسهم صالح بحث افشل سلفه في استكمال ‏استحقاق المرحلة الانتقالية ، بدءاً بفشله في تثبيت هيبة الدولة وهيكلة الجيش ، وانتهاء ‏بسقوط صنعاء وظل يتفرج حتى تثبت هؤلاء والتغلغل في أجهزة الدولة ونهبها‎  ..‎
 
 
‏* كاتب ودبلوماسي يمني


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد