ربيعٌ رُغْمَ سيلِ الدّماء

mainThumb

16-12-2011 02:31 PM

كان ما جرى في العالم العربي صادما لكلّ القوى المتجبّرة التي اعتلت كرسي السلطة، وأمسكت بالزّمام، وتحالفت مع أعداء الأمة في ضمان سيطرتها على المقاليد، مقابل النّيابة عنهم في تنفيذ السياسات، وتمرير الإملاءات، وإجهاض كلّ المحاولات المخلصة لاستئناف المشروع الحضاريِّ للأمة.

كما كان الوضع صادما أيضا للغرب وللشرق، ولكل قوى الاستكبار العالمي، حيث قلب الموازين، وغيّر خريطة التفكير، وعطّل الدّراسات والتّوقُّعات، وأفاقت تلك القوى على هدير غاب طويلا، وصوت ظلّ محبوسا دهرا، وطاقات عُطّلت قسرا، وإرادات انطلقت من عقالها ، بعد أن أخذ أولئك الغرورُ، وظنوا أنّهم بدّدوها، ولن تعود أو تقوم لها قائمة، فتشمروا ليتداركوا الوضع قبل الفوات، واجتهدوا في التّكيف مع واقع جديد يتولّد، ويفرض نفسه قهرا على الجميع.

لكن الأمر كان بالنّسبة لبعض الليبراليين واليساريين والعلمانيين، واللادينيين، وعلماء سلاطين أكثر من مجرّد صدمة، وتعدّاها ليصير كارثة، بل كابوسا جفّف الحلق، وصاعقة حرقت هشيم الأحلام التي عاش عليها هؤلاء، وهم يهيّئون الأجواء لأخذ  دورهم في نيل الأماني، ووراثة النُّظم التي غازلوها طويلا، وغطّوا سوآتها، وذادوا عن حياضها، وصار حالهم كحال الذين: {يجعلون أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ}.

ليس هذا ربيعا عند هؤلاء، بل خريف ميبّسٌ للدّماء في العروق، لأنه أجهض آمال غاصبي السّلطة، وقطع الطريق على أبناء الذّوات والوزراء ورجال الأعمال، وألغى قوانين وراثة المناصب العامّة، وسحب الكروت والامتيازات،  ولو ضمنت التحولات لأولئك تلك المكاسب لكان في عُرفهم ربيعا، وأيّ ربيع.

-    يقولون: انظروا كيف ذهب الأمن، وحلّت الفوضى، وسيطرت على النّاس الهواجس، وكأنّ الأمن كان فيما مضى سمة من سمات حكم الطواغيت!!

-    يقولون: لقد قُتل الناس، واغتُصبت النّساء، وتيتّم الأطفال، وكأنّ الظالمين لم يقتلوا بالتّقسيط المريح أضعاف ما قُتل في انتفاضات الكرامة!!وكأنّ النّساء لم يكرهن على البغاء بحكم الحاجة أو الخوف أو حلم الوصول، أو ابتزاز المسؤول!! وكأنّ الطفولة كانت همّا شاغلا لأمراء المؤمنين!!

-    يقولون: لقد كانت الكُلفة على الخزينة كبيرة، وخسارة الدولة باهظة، لحدٍّ بات يهدّد استقرار الوطن وتماسكه، وكأن الحرامّية الكبار وأبناءهم ومحاسيبهم أبقوا في الخزينة شيئا ، أو أنّ الوطن يعني لهم أكثر من صراف، أو مزرعة!!

-    يقولون: إنّ هذه الفتنة بوّابة للتَّدخل الخارجيّ، وكأنّهم لم يكونوا من أولّ يوم تسلّموا فيه السّلطة عملاء ومأجورون، بل أدوات وصنائع لأعداء الأمة!!

لقد تحالف كل أولئك فعليّا - وإنْ أظهروا خلاف ذلك - وعملوا بدأب على رفع تكلفة الربيع العربي، خاصة في الحالة الليبية والسورية واليمنية، لينكسر الثّائرون، ويملّ المنتظرون، ويتراجع المفكرون، ويعيد المتأهّبون حساباتهم.
لكن فات الأوان فالنّاس أدركوا حجم قوَّتهم وصلابة عودهم، وهشاشة عظام جلاديهم.

أدركتِ الشُّعوب أنّ للحياة طعما آخر غير الذي أذاقته لهم الأنظمة السّاقطة، وأن للعدالة ميزانا لم تعرفه الأنظمة البائرة، وأن للكرامة وجودا أهدرته الأنظمة الفاجرة، وأن للعزة معنى أضاعته الأنظمة الخانعة في رمال الذل والمهانة، وأن في البلاد خيراتٍ غامرات ابتلعتها التماسيح الدامعة.

أدرك الناس أخيرا، أنّ الحقوق لا تُنال بالتمني، وإنّما تؤخذ الدّنيا غِلابا، وأدركوا أن الخنوع يجرّ الخنوع، وأن خشية الفقر تجلب الفقر، وأنّ وقبول الصّفعة على الخدّ الأيمن يستجلب الصّفعة على الخدّ الأيسر، وأنّ انحناء الهمامة يستدعي طوابير الراكبين والراكلين، وأنّ الخلاص يكون بفورية الاعتراض، وسرعة الإباء والرّفض، ولحظيِّة الامتناع والمعاندة، وأنّ الصّرخة في الوجه لا تُقابل بالإذعان وإنّما بصرخة تُبطل الصرخة، ولطمة تعدل اللّطمة، وصاعا يكافئ الصاع.

أدركوا أنهم لا يمكن أنْ يهنأ عيشهم، ويطمئن بالُهم، وتعود حقوقهم، ويندحر عدوهم، مادام السّاقطون حكّاما، والتّافهون، وزراء، والمخنثون ساسة، واللصوص تجّارا.

أدركوا أنَّ كَنس هؤلاء مِن حياتهم نِعمة، ونفيهم عبادة، وقتلُ المجرم منهم قربة، وتمريغ وجوههم شفاء لما في الصدور، وأن المبذول في سبيل ذلك قليل مهما غلا، وهيّن مهما عظُم، ومقدور عليه مهما ثَقُل.

وأدركوا أن الرّبيع لا يولد إلا إذا انشق له بطن الأرض، وأن البرعم لا يرى النور حتى تنشق له البذرة، وتغذوه بحياتها، فتقضي هي لتتخلق فيه من جديد.  وأنّ قانون الطّبيعة هذا في الربيع، هو ذات القانون الذي يحكم ربيع الحرية والكرامة، والعقلاء هم الذين يختارون موتا هو عين الحياة، ويعافون حياة هي عين الموت، ولله درّك عنترة:

حكِّم سيوفك في رقاب العُذَّل ***** وإذا نزلت بدار ذُل فارحلِ

وإذا بُليتَ بظالم كن ظالما ***** وإذا لقيت ذوي الجهالة فاجهلِ

وإذا الجبان نهاك يوم كريهة ****خوفا عليك من ازدحام الجفلِ

فاعصِ مقالته ولا تحفل بها **** واقْدُمْ إذا حَقّ اللِّقا في الأوَّل

واختر لنفسك منزلا تعلو به**** أو مُتْ كريما تحت ظلّ القسطل

لا تسقني ماء الحياة بذلة **** بل فاسقني بالعز كأس الحنظل

ماء الحياة بذلة كجهنم ***** وجهنم بالعز أطيب منزل


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد