كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الفساد والمفسدين، حتى عدت أخاله الحديث الأوحد والوحيد للشارع الأردني في جميع المناسبات واللقاءات الشبابية، وتتباين وجهات النظر حيال هذا الموضوع بين مؤيد لحركات الحكومة الأخيرة في زج من يشتبه بهم في قضايا فساد خلف القضبان، وبين طرف آخر لا يمانع من حيث المبدأ هذه الحركات، ولكنه في ذات الوقت يعتبر أن الوطن يمر بأزمة حقيقية ومخطط داخلي وخارجي للنيل من أمنه وانجازاته، وأن عدم الخوض في هذا الموضوع هو من صميم وطنية المرء.
أعترف بوقوفي في منتصف الطريق بين الرأيين السابقين، فأنا اتفق معهما واختلف في ذات الوقت، فبالرغم من الإقرار بوجود الفساد والمفسدين، إلا أن القضية الأخطر في الموضوع، هي أن الفساد في هذا البلد أصبح قانونياً، بمعنى أن الأنظمة والقوانين والتشريعات هي ذاتها تضفي شرعية على الفساد والمفسدين، و تؤمن له الغطاء القانوني ، ولولا وجود هذه القوانين والتشريعات، لكان من السهولة الزج بالكثير من الفاسدين والمفسدين خلف القضبان، ولكن المحكمة أذا أرادت النظر بقضية ما، تبحث عن مخالفة للقوانين والانظمه، وهو الشيء الذي لم تثبته المحكمة في الكثير من قضايا الفساد والمفسدين ونهب المال العام.
فعملية الخصخصة على سبيل المثال لا الحصر ، هي عملية يعترف القاصي والداني أنها استنزفت مقدرات الوطن، وبيعت بثمن بخس لأشخاص وجهات داخلية وخارجية ، ولكن هذا البرنامج سيء الذكر ما كان له أن يتم لولا غطاء قانوني وشرعي له ، بمعنى أن القوانين التي وضعت لإضفاء الشرعية على هذا البرنامج، فُصّلت بحيث لن يمس مخططي هذا البرنامج أي سوء في المستقبل ، ودليل ذلك أن معظم الشركات التي لا يختلف اثنان على وجود شبهات فساد في بيعها هي عملية اتخذت وفق القانون، وبحمايته ، وبإيعاز من متنفذين كان لهم نصيب الأسد من هذه الخصخصة ، والأمثلة كثيرة يضيق المقال عن سردها.
هذا على صعيد الوطن ، أما على الصعيد الأضيق، فأضرب لكم مثالاً أشد إيلاما يتعلق بجامعة البلقاء التطبيقية ، فهذه الجامعة التي مازالت في مرحلة النشء ، و ينقصها الكثير من المباني والبنى التحتية التي تؤهلها للسير في ركب زميلاتها الجامعات الأردنية التي رسمت لنفسها طريقاً معبداً منذ أمد، وأهلها لان تكون من الجامعات المرموقة على الصعيد المحلي على الأقل ، نُهبت بطريقة قانونية، ووجد القانون الذي يوفر الحماية لهذه العملية .
ففي الوقت الذي كانت فيه جامعة البلقاء في أمس الحاجة إلى مباني جديدة وتطوير للبنى التحتية، واستملاك أراضي جديدة لتطويرها وإنشاء كليات جديدة، نجد أن أدارة الجامعة السابقة قد قامت باجتزاء جزء من هذه الجامعة وميزانيتها لتأسيس جامعه أخرى في محافظة أخرى لا تخدم البلقاء ولا أهلها، ومن رحم هذه الجامعة وعلى حسابها، ومن رسوم أبناء البلقاء.
فقد قام رئيس الجامعة السابق بضخ الملايين من الدنانير في ميزانية معهد يتبع للجامعة، وما زالت مشاغله حتى هذه اللحظة في مركز جامعة البلقاء في السلط وذلك قبل فترة وجيزة من قرار فصله عن الجامعة، وقد تباين الرقم الحقيقي لهذا المبلغ ، وأنّا كان الرقم فأن هناك مبالغ طائلة وضعت في ميزانية هذا المعهد قبل فصله، مع العلم المُسبق من رئيس الجامعة السابق أن هذا المبلغ وكذلك المعهد سيذهب إلى غير رجعه إلى جامعه العلوم الإسلامية، هذه الجامعة الذي عجز المصنفون في وضعها على قائمة الجامعات الحكومية أم على قائمة الجامعات الخاصة، أم على قائمة الجامعات الدولية والعالمية.
وكذلك الحال مع كلية الدعوة وأصول الدين ، هذه الكلية التي بنيت على حساب جامعة البلقاء التطبيقية ، وشيدت لها الجامعة مبناً ضخما يربو على أجمل تلال منطقة طبربور وسط العاصمة عمان، في وقت كانت فيه جامعة البلقاء في مدينة السلط أحوج ما تكون فيه لمثل هذا المبنى، لتخفيف الضغط الحاصل على قاعات التدريس، ناهيك عن ثمن قطعة الأرض التي بُنيت فيه، والبنى التحتية لهذه الكلية، ومعداتها ومختبراتها وآلياتها وسياراتها .
كل ذلك من المباني والميزانية والآليات لكل من معهد الفنون الإسلامية وكلية الدعوة وأصول الدين اللواتي يعتبرن النواة لتأسيس جامعه العلوم الإسلامية العالمية، وضعن على طبق من ذهب لهذه الجامعة، دون أن تستفيد جامعة البلقاء من هاتين الكليتين.
وهنا أتساءل : عندما تم التنازل عن هذه الكليات لصالح جامعه العلوم الإسلامية تم وفق القانون أم هو بقرار فردي أتخذه رئيس الجامعة ؟ ومنذ متى والجامعة تؤسس جامعه أخرى غير ما حصل في جامعة البلقاء؟ ومن المسئول عن ضياع مقدرات جامعه البلقاء لصالح جامعه أخرى؟ أليس في هذا الموضوع شبهة فساد؟ أما كان الأولى أن تزج هذه الأموال التي خرجت من رحم جامعة البلقاء في جامعة البلقاء نفسها ؟ أليس هذا الملف الذي أستنزف جامعه البلقاء أولى أن يوضع على مكتب مدير دائرة مكافحة الفساد؟ أليس من الأولى أن يشكل رئيس الجامعة الحالي لجنة لدراسة الآلية التي تم بموجبها اجتزاء هذه الكليات وهذه الأموال التي ذهبت إلى جامعه أخرى من دم أبناء البلقاء؟ .
لا أملك في نهاية هذا المقال إلا أن أقول أن الفساد في الأشخاص يمكن علاجه بسهوله، أما إذا كان الفساد يطال القوانين والتشريعات التي تفصل على مقاس الفساد والمفسدين، فهذه هي الكارثة، وهنا المقتل.
وأعود بعبارة قالها غيري: "القانون كما يحمي الحق يحمي الباطل"، وفي مثل الحالات السابقة فأن هذا الباطل هو باطل قانوني، لأنه ولد تحت غطاء القانون، وإن كان هناك نية حقيقية لمكافحة الفساد والمفسدين، فعلى المشرعين أن يسلكوا الطريق المؤدي إلى قوانيننا وتشريعاتنا، أم الطرق الأخرى، فجميعها محفوفة بالمخاطر، ولن يوصل أي منها إلى شيء غير الكارثة الحقيقية، والوقت لا ينتظر.
Amakh75@yahoo.com