يظل هذا السؤال ذو الصيغة الجدلية يدور في فلكه المبدئي المستند إلى المواقف المعلنة والصريحة من قضايا الإنسان في مختلف المجتمعات التي ظلت تحوم حول قضايا التخلف (النسبي) عن الركب الحضاري وعن الفقر وعن البطالة كمشكلات مزمنة مرافقة للمجتمعات على مختلف مستويات ترقيها وتقدمها. والركب الحضاري هو ركب العلم وإنتاج المعرفة ورفع سوية القدرات الوطنية على تحويل المعرفة إلى منتجات أو إلى أدوات ووسائل إنتاجية حديثة تراكم منجزات التقدم وتزود بالطاقة النابضة مصادرالتنويرالفكري وتوسعة آفاقه ونقلها من مستوى المحلي إلى مستوى العالمية.
وكي يكون الفكرعالميا فإن صلاحيته للانتشار تحددها حججه النقدية الذاتية منها بشكل ضروري وهام,وفي قدرته على مقارعة الحجج المعارضة وأو المعترضة والمختلفة في مناعة إمكنياتها على استعراض ألأوضاع العالمية , لا ليسجل انتصارا نهائيا على تلك الحجج , بل لكي ينتقل بها ومعها إلى الانتفاع بكل فكرة أو رأي أو نقد أوملاحظة أو تنويه يديم الصفة الدينامية على الحركة الفكرية وحراكها التبادلي للآراء والحجج المستهدفة تمتين الروابط البنيوية لمكونات المجتمع بكل أصنافها وأنواعها البشرية والتراثية والثقافية والعرقية والجنسية, بتقاليدها وأعرافها واحترام كل عناصرها ومبادئها الإيمانية والعقائدية والسياسية.
وقد صيغت الأفكارالعامة والمبادئ العديدة والمعتقدات المختلفة على شكل أيدولوجيا, وفي صياغات فلسفية تنويرية في الرؤى المستقبلية التي صاغها التاريخ الإنساني.
إذا كانت الأيدولوجيا , كما يراها البعض," تصف ما أنت مصمم على فعله ".وإن الفلسفة "تعلم كيف يجب أن تتصرف " ,فإن من الحكمة تحتم الإقراربأن الاختلاف في الرؤى يغني الفلسفة عمقا ورصانة,ويثري الأيدولوجيا مفاهيما ومبادئ إنسانية قيمة يستقبلها العالم في أماكنه المستقرة جغرافيا والدائبة النشاط فكريا. ونجد في اختلاف كانط وميل حول أيهما أنفع فعل الصواب أم فعل الخير, والصواب والخير مفاهيم عالمية المفهوم ومختلفة المضمون, دليلا على إن الاختلاف فيه تنوع لمعاني الخير ولمعاني الصواب مما يوفق بين الثقافات العالمية ويردها إلى مرجعيات القيم الإنسانية بمذاهبها الفكرية وأساليبها التحليلية العديدة .
يقدم كانط (إيمانويل كانط ) فعل الصواب على فعل الخير,لإيمانه بأن العقل المجرد يمكن وحده أنْ يقودنا إلى الحقائق الأخلاقية.وإن من الخطأ استغلال الآخر لتحقيق غاياتنا الخاصة, وإن الصواب أنْ نتصرف فقط وفقا للمبادئ التي يسيرعليها الجميع.
أما ميل (جون ستيوارت ميل),فيعتقد إن مبادئ الخير والصواب,ينبغي قبل كل شيء أنْ تحقق الخيرالأعم للغالبية العظمى من الناس حتى وإنْ أدى ذلك إلى الإضرار ببعض الأفراد , أي إن كل ما هونافع , يُعتبر خير للإنسان.
وإذا كانت الأيدولوجيا ملزمة على الانخراط في السياسة في عالم معولم بحكم وسائل الاتصال ومراكب الوصول الفوري وحكم القوي للضعيف ( هناك ضعاف برغبتهم وبركونهم إلى حماية الأقوياء ورعايتهم) والتحكم بمقدراته, فإنها عاجزة تماما عن دمج السياسة بها ,أو صهرها في بوتقتها أو حتى مجرد تطويعها لتتواءم مع نصوصها ومع فصولها أو الحد الأدنى من فقرات بياناتها وخطبها الملتزمة بها طروحاتها. الأيدولوجيا والسياسة قضيتان مركبتان ومتنافرتان ( ليسا بالضرورة متناقضتين ),ولا تلتقيان إلا عند الخطاب العاطفي والضبابي الذي لا تصمد وعوده عند أول اختبارعملي في العراك السياسي على الالتزام بما وعدت به أو أوحت بالوعد به.ولايفوتنا أن نتذكر إن الأيدولوجيا تستلزم التفكيرمن قاعدة ثابتة من المبادئ والقواعد والمنطلقات,في حين إن السياسة ممارسة تنطلق من قاعدة متحركة متقلبة الأوجه متغيرة الأمزجة متبدلة القواعد والمنطلقات, تدور حول الأوضاع حينا وتديرها في حين آخر, فليس في السياسة ثوابت آجلة, لأنها تنطبق عليها سمة -- فن إدارة المواقف العاجلة--.
الأزمات الفكرية التي تعيشها مجتمعاتنا العربية أربكت أيدولوجييها وسياسييها ومثقفيها ومفكريها وخبرائها وشتّت طرق تقاربهم ,تتشارك في تعميقها وفي تعقيدات عناصرها الرئيسة وفي إعاقة محاولات تواصل أطرافها كل مكونات المجتمع وقواه وتياراته بلا استثناء أو تخصيص ,فلا نظم الحكم قادرة على تحديد شكلها السياسي أو نمطها القيادي أووضع برامجها في أطرواضحة المعالم والخطى, ولا القوى المعترضة على ما يدور حولها من أحداث وفعاليات من مصادرها الحكومية أوالشعبية ما دامت لا تشارك بها وتفتقد دورها فيها ,فهي غيرراضية عن أي طرف أو جهة أو فعالية لأسباب خاصة بها وليس لطبيعة الحدث أو الفعالية أو تاثيرها على المجتمع, ولا قوى المعارضة المؤدلجة وغير المؤدلجة قادرة على أن تكون قوى طرح بدائل لم يسبق تكرارها بتغير الزمن في مناسبات عديدة مهما اختلفت أسبابها ومهما تنوعت مصادرها بقوالب فكرية سابقة التصميم والتجهيز, وما لها من سوابق تاريخية لم تقيم نتائجها بحيادية ولم تستوعب دروسها. (نميزهنا بين المعترضين أي الساعين إلى تحقيق مكاسب من أي طرف كان ,فهم سعاة مصالح آنية ذاتية , والمعارضين أي أصحاب رؤى أيدولوجيا آراء مواقف مغايرة ومختلفة الأساليب والأدوات ,فهم جزء من نسيج ثقافة الوطن السياسية والأدائية).
لعل الصخب الذي يرافق الفكرالسياسي واجتهاداته وشعاراته ذات , يحتاج إلى آذان صاغية بحرص , وعقلية متحررة من قيود منطلقات جافة ,ورصانة تفكيرهادئ منطلق من عقل متنور وذكي لا تكبله أطر جامدة,وإلى قواعد متحررة من أسبقيات عقائدية, كي تقوى على مقارعة السياسة بالسياسة ,وحرية القول بحرية قول , واعتماد المواقف المتمكنة من المقارعة السياسية كي تأخذ مكانا لها في حدائق الفكرالسياسي وغاباته الحرجية الكثيفة,لعلها في ذلك ومنه تحاول تفسيرأسباب و دوافع اللجؤ إلى دوائر الإمبريالية وقواها الاستعمارية ومبررات تحريضها على تمكين بعض القوى المعترضة وبعض قوى المعارضة من السلطة على أنقاض بنيان الوطن وتشظي قواه وسلب ثرواته,والتجرؤ على معادات قيم الوطنية البدهية في ثقافة الفرد وفي تراثه , ونبل الانتماء لترابه والتمسك باستقلاله !!.