فوائد الدم الساخن

mainThumb

16-07-2012 02:10 PM

 أستمع الى الروايات وينتابني خوف عميق. خوف على المستقبل من قسوة الحاضر ومشاهده. خوف من الجروح العميقة التي تُحدثها الممارسات الوحشية. وخوف من وقوع ذوي الضحايا في رغبة الثأر، ليأسهم من قدرة العدالة على بلسمة جروحهم.

 

شعرت بالخوف وأنا أستمع الى نوري المسماري أمين جهاز المراسم في عهد معمر القذافي والذي تنشر «الحياة» روايته هذه الأيام. كنت أعرف أن القذافي دموي، لكن الرواية تُظهر أنه كان أقسى مما اعتقدنا وأن ارتكاباته أفظع.
 
استولت عليّ حادثة ما كنت لأصدقها لو قرأتها في رواية. كان المسماري يرافق القذافي في رحلة صيد في رومانيا تشاوشيسكو في الثمانينات. استغل رجال الاستخبارات الليبية الرحلة لتصفية ضابط ليبي مشارك فيها والتهمة التي استدعت القتل هي ما شاع عن اعتقاد الضابط ان والدة القذافي يهودية. وأكد المسماري ان التهمة نفسها كانت السبب في اغتيال اثنين من الديبلوماسيين الليبيين.
 
استفظعت الحادثة لكن كان هناك ما هو أدهى. خلال الرحلة اصطاد القذافي غزالاً. وحين جاؤوه بالغزال القتيل أدخل يديه في صدره وراح يغسلهما بدمه. استغرب المسماري المشهد فسأل القائد، الذي أجابه: «أنت لا تعرف فوائد الدم الساخن».
 
لست صحافياً رقيق القلب. قادتني المهنة الى مكاتب كثير من القساة وبيوتهم. سمعت منهم أنهم زرعوا عبوات ناسفة. وسمعت أنهم أعدموا أو قتلوا وكانوا يغطون ذلك بشعارات براقة. وروى لي بعضهم عمليات خطف شهيرة. وحكى هؤلاء عن ارتكابات قساة عملوا معهم أو في ظلهم. لكن عبارة فوائد الدم الساخن كانت آخر ما دار في بالي قبيل النوم وأول ما استقبلني في الصباح.
 
قبل سنوات شعرت بالخوف حين روى لي مسعود بارزاني آلامَ أكراد العراق وآلام عائلته وكان صدام حسين لا يزال يرابط في قصره في بغداد. وشعرت بالخوف حين روى لي آخرون قصة المحاكمة الهزلية التي افتتح بها صدام حسين عهده في 1979 وانتهت بإعدام وجبة محترمة من «الرفاق». لم أسمع أن صدام اصطاد غزالاً وغسل يديه بدمه لكنه كان بالتأكيد مقتنعاً بفوائد الدم الساخن.
 
كنت أستمع الى رواية المسماري وهجم عليّ شريط القتل، خصوصاً بعد الغزو الأميركي للعراق. القتل في بغداد ثم الاغتيالات في بيروت وتلك السيارات التي تنفجر في هذه العاصمة أو تلك. انها سنوات القتل بامتياز. تنوء الشاشات تحت أثقال الجثث الطازجة. تنوء الصفحات الأولى من الصحف تحت أثقال الجنازات. مصانع الأرامل تعمل بكل طاقتها ولا تنافسها غير مصانع الأيتام.
 
قلتُ أهرب من رواية المسماري. رحت أتنقل بين الشاشات. كانت المشاهد فظيعة وشديدة الإيلام. سمعت روايات شهود يتحدثون عن المجزرة التي شهدتها بلدة التريمسة السورية. خالجني شعور بأن سورية مندفعة نحو المزيد من الفظائع والأهوال. وبأن سورية نفسها قد تكون بين قتلى المجازر الجوالة. وبأن خرائط أخرى قد يمزقها الدم الساخن.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد