حِمْل الحزبية الثقيل

mainThumb

02-09-2012 04:48 PM

 يقوم الانتساب إلى العمل الحزبي في المجتمعات غير الديمقراطية أوشبه الديموقراطية على دوافع مختلفة ,منها ما هو متعلق بطبيعة الشخص الميالة إلى الحراك الاجتماعي والمشاركة في التيارات السائدة في المجتمع سياسية كانت أو ثقافية أم اجتماعية , ومنها الميل السياسي الذي يغري الذات الطموحة إلى العمل في تجمعات سياسية تغريه فيها مبادئها ويشد انتباهه شعاراتها التي تكون في العادة منادية بقيم سامية  و تشكل في مفرداتها تحديا للسلطة القائمة ,وهناك الدوافع الانتهازية في الانتساب لأحزاب لها تأثيرمباشر  في المجتمع,وهذه الدوافع لم تختف يوما من سلوك البعض.

 
من حيث المبدأ,تشجع الديمقراطية قيام التنظيمات المدنية المختلفة الأهداف والغايات التي تجمع التنوع الفكري في الشأن العام والتي تعبر عن تعددية المصالح لمختلف مكونات المجتمع, وتأتي من جملة هذه التنظيمات الأحزاب السياسية , وهي في الديمقراطيات العريقة لا تشكل أهمية تفوق على أهمية قيام منتدى فكري أو منظمة أهلية تراقب النزاهة أو أي تجمع يحرك فعاليات تدعو إلى محاربة الفساد بأشكاله الإدارية والمالية والسياسية والاجتماعية ... وإنما تقع في نفس الأهمية إن لم تقل عنها قليلا كونها أي الأحزاب السياسية ذات طموحات سلطويةجامحةوإن لم تكن معلنة معلنة.
 
   في الأساس الديمقراطي,لا يمكن أن يكون الفكر الشمولي معبرا صادقا عن المطالبة بالديمقراطية التي تعتبرالمشاركة الكلية والتوافقية العادلة أساس هياكلها في إدارة الشأن العام .المشكلة التي تواجه العقائد  الشمولية تتركز في جوهرها في مسارالعلاقة بين العقيدة وبين السلطة .وهي علاقة لم تتبن العقائد الشمولية آليات واضحة المعالم , فاعلة الأساليب تعبر العقائد بها عن نفسها بما تتبناه من سياسات داخلية وخارجية وبما تتخذه من مواقف لمعالجة القضايا الاجتماعية التي تنشأ بالضرورة من تركيب المكونات الاجتماعية العرقي والثقافي والطائفي والسياسي,الذي يعبر عنه في الدول المتحضرة بالتعددية في المجتمع أي مجتمع في أي موقع جغرافي كان, في أوروبا أو أميركا شمالها وجنوبها,أوأفريقيا أو آسيا .
 
التعددية هذه التي جبلت بها الخليقة بكل أنواعها بإرادة إلهية , الجغرافيا بتضاريسها,والبحار باتساعها ,والسهول بخصوبتها والجبال والوديان بجيولوجيتها والحيوانات والنباتات بأنواعها واشكالها وأصنافها وجيناتها .. وكذا الأمربالنسبة للإنسان الذكر والأنثى,تتناقض أشد التناقض من المبادئ الشمولية خاصة تلك التي تعتمد التشريعات الصارمة والحادة الاستحواذية والاستعلائية والإقصائية.والتعددية ليست بالضرورة معادية للفكر الشمولي , ولكنها بالتأكيد لا تقبل بأحكامه ولا تنسجم مع طروحاته ولا تستجيب لمقرراته . ولعل التحول العظم في تسريع وتيرة الترقي والتحضرهو ما شهدته المجتمعات التي أضفت حقوق التعددية على الجميع,أي دون تمييز بين أقلية وأكثرية أو أقلية وأقلية أو أكثرية وأكثرية وأقرت تلك الحقوق بدساتيرها بكل وضوح وتكافؤواحترم قراراتها تلك دون تحفظ أو تذمرأو محاباة.
 
العقائد الشمولية تقر النخبوية السياسية ,وتعتمد الوصاية الأبوية على المجتمع وتبدي اعترافا شكليا مداهنا   بالتعددية على أساس تبعي والاحتكام إلى رعاية حقوقها التي لاتقر بدورها في الحكم أو مراكز صنع القرار. ولذلك تجد نفسها في خضم من التناقض بسبب ما تقره من إجراءات تفتقر إلى مجاراة الواقع الاجتماعي والتجاوب مع تطلعات أجياله الشابة التي انتقلت من مراحل التلقي والإصغاء للنصح والإرشاد إلى مرحلة التوثب للاستجابة الواعية إلى معارف العصر التي أصبحت في متناول اليد بكل بساطة وسهولة,مركزة على دور الفرد وعلى قدرته على المشاركة في صنع القرارات التي تتعلق بشؤون حياته وصناعة مستقبله,بعيدا   عن الوصاية التي تفتقر إلى وعيها لدور الأجيال المتتالي بمفايم جديدة وآراء تجديدية في التغييروفي الاستقلال الفردي في تقريرمصيره وفي الاستعانة بالخبرات التي يرى فيها ما يفيده في اتخاذ قراره.فمثل هذه الأحزاب تظن أن السلطة طريقها إلى تحقيق أهدافها ولكنها سرعان ما تغرق في منافع السلطة وتتلذذ بسلطانها وتضع أهدافها في مقام متأخرقد لا تستذكر منها سوى دافع الحفاظ على السلطة لأنها تجد نفسها في خضم الهاجس الأمني الذي يصيب كل الطامحين إلى السلطة تحت أي ذريعة تعللوا بها.
 
لم تعد الحرية الفردية أنشودة شعب مستعبد,أو قصيدة شاعر مقهورعلى مصير وطنه ,أو فئة مضطهدة ,بل أصبحت(وكانت منذ الأزل) إضافة إلى كل ذلك حاجة فردية ماسة يجد الواحد في نفسه مصدراعتزاز وثقة  ذاتية في مجتمع يحترم الإرادة الفردية ويقدر جهود أجيالها على التغيير والتحديث وتطوير القدرات ورعاية المواهب والعقول الإبداعية . 
 
الحِمْل الثقيل الذي ينوء به ظهر الحزبيين ومنطقهم وجهدهم الفكري حين يصل الحزب ذو العقائد الشمولية   إلى السلطة أضطرارهم إلى الدفاع عن مواقف الحزب السياسية المحلية منها والدولية, ومحاولات مضنية للتبرير لتلك المواقف التي منها ما يتعارض ليس مع أدبيات ذلك الحزب قبل الوصول إلى السلطة , وإنما مع بعض الثوابت (والشمولية تحتضن الكثير من الثوابت مما يعيق حركة فكرها ويقيد حرية تفكيرها) التي ملأت أسماع الناس بها مكررة إياها بكل مناسبة. وهذا مرده إلى واقعة إن السياسة والعقيدة تتناقضان أكثر مما   تلتقيان, وتختلف المواقف إزاء القضايا الوطنية والعامة في كل منهما اختلافات واسعة ,فيجد العقائدي نفسه    في حبكة معقدة من القضايا التي تحتاج إلى قرار بموقف منها, فلا يجد أمامه إلا التبرير (أوالتفسيروذلك أمر نادر) ما يبقي للسلطة في يديه مبرراتها الواهية, فيحوم حول العقيدة لربطها بالحدث فيقع في حلقة الكذب  ودائرة الإنكار والاستنكاروالتنكر حيثما اقتضت الوسيلة التبريرية ذلك ,التي تجلب مزيدا من الاحتقان    الشعبي وإحراج الحزبي وإبقاء الوطن أسير تلك الحالة التي لن تقدم للشعب سوى تجربة فاشلة يدفع ثمنها من خزائن تقدمه وآلياتها. 
 
هذه التجارب مرت بها العديد من دول العالم,في الشرق وفي الغرب ,فلم تحصد سوى خيبة الأمل وفقدان الُثقة بالإحزاب والحزبيين ,ومررنا بها في دولنا العربية , وهذه التجربة المصرية الحالية شاهد على ذلك حيث تظهر التبريرات في أكثر من حالة لقرارات اختلف الحزبيون الحاكمون أنفسهم حولها وشرحوها بطرق مختلفة فيها كثير من مجافاة الحقائق وإنكارها, ومخالفة الوعود الصريحة والعمل بضدها,وإن كان هذا الضد مدانا في مرحلة حكومات سابقة منها نفسها. 
 
ويبدو إن الحكمة تقع في أنْ نتفق على حاجة العقائد إلى سياسة لنشرها والدعوة إليها ورفعها إلى مكانة الثقافة السائدة في قيمها ومفاعيلها الاجتماعية. أم السياسة وإدارة الشأن العام وتولي شؤون الحكم وسياساته فلا يحتاج إلى عقيدة ,بل إلى مهارة التقلب والتصلب والمناورة والمداورة بذكاء لا تحد منه أي قيود وفطنة يقع خلفها    فكر متقد متجرد. وإذا تمكن الحزبي من التقيد بذلك ,فكيف يجد موقعه من العقائد التي يتبناها؟ وهل حمل هم الحفاظ على السلطة أقرب إلى السماء من حمل راية العقائد الخيرة بقيمها التي حفظت للإنسان كرامته الشخصية وحقوقه في المواطنة؟؟.
 
نظام الحكم ليس قيّما على أخلاق الناس وليس مرشد صلاح وداعية عدل ومساواة, بل إدارة  لخدمة إسعاد الناس ورفاههم,وليس نظام الحكم مدرسة للقيم , بل ورشة لعمل ينفع الناس ويتقدم بهم ويعبرعن إراداتهم كما يقررونها وكما يضعون أطرها.وليس أكثر حمقا من الالتفاف على معنى المشاركة باختيار شخص من هذا الطرف أو ذاك سوى الادعاء بأن ذلك مشاركة .مشاركة جهة ما أو (أقلية!!) بشخص أو أكثر,لا تختاره رئاسة الجمهورية أو مجلس الوزراء أو إدراة حاكمة, وإنما هذا الاختيارحق مطلق للجهة التي يُدعى تمثيلها ( لنراجع معرفتنا بالتعددية ومعناها).والقادة السياسيون الذي يراهنون على جهل ما في أمرما لدى مواطنيهم ,إنما يخدعون عقائدهم وأنفسهم في الوقت ذاته.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد