مضت حياتي كلها .. وأنا أمني النفس وأحلم بأن أعيش يوما واحدا .. في أرض يعمها السلام والأمن .. الأمنية تبدو مستحيلة .. نعم مستحيلة ، حتى بدا تحقيقها بالنسبة لي ضربا من الخيال .. إنها تشبه إلى حد كبير أمنية خروف العيد .. أو الأضحية التي يجلبها المضحون قبل أيام من حلول العيد ، فتبقى تنتظر يوم الذبح .. بلا أمل أن تنجو من سكين الجزار .
فقلت في نفسي لطالما هناك أمنياتٌ كثيرةٌ لم تتحقق ، وأحلامٌ كبيرة وكثيرة ، تذهب إدراج الرياح فتبقى حلما في الذاكرة ليس إلا .. تعيش في مخيلتنا زمنا وربما كل حياتنا ، ومع ذلك لا تنساها مع أنها مجرد أحلام ..
الحلم الذي راودني ، كما أسلفت هو أن يعم السلام ربوع البلاد العربية من المحيط إلى الخليج ، كي يتسنى للإنسان العربي الذي حرم من نعمة الأمن والأمان منذ أكثر من ستة عقود أن يشعر بالهدوء والاطمئنان ، وأن يحيا حياته كباقي المخلوقات ، بعيدا عن حياة شريعة الغاب ، وذهبت إلى أبعد من ذلك أي مذهب .. وهو أن أرى الإنسان العربي المتوشح برسالة الإسلام ، قد حقق رغبة مهمة ، أكثر من المال والجاه والمنصب ، بأن يكون ذلك الإنسان العظيم ، صاحب الأنفة والكبرياء ذو المكانة الرفيعة العلية ، الذي أعزه الله بالإسلام ، منذ أيام انطلاقة شرارة الإسلام الأولى بعد أن نزلت الرسالة على سيد الخلق محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام .. حيث بدأت مهمة نشر تعاليم الإسلام مباشرة . ولتعزيز مفهوم العزة التي ألبس الله ثوبها للمسلم الحق ، فمن طريف ما حدث بهذا الصدد .. هو أن النبي عليه الصلاة والسلام ، حينما أراد الدعوة إلى الإسلام خارج رقعة الجزيرة العربية ..
انتدب ستة من الصحابة ليحملوا كتبه إلي ملوك العرب والعجم ، وكان أحد هؤلاء الستة عبد الله بن حذافة السهمي ، فقد اختير ليحمل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ملك الفرس ..
جهز عبد الله بن حذافة راحلته ، وودع صحبته وولده ، ومضي إلى غايته ترفعه النجاد وتحطه الوهاد ؛ وحيدا فريدا ليس له إلا الله ، حتى بلغ ديار فارس، فاستأذن بالدخول على ملكها ، وأخطر الحاشية بالرسالة يحملها له. عند ذلك أمر بإيوانه فزين ،ودعا عظماء فارس لحضور مجلسه فحضروا ، ثم أذن لعبد الله بن حذافة بالدخول عليه .
دخل عبد الله بن حذافة على سيد فارس مشتملا شملته الرقيقة ، مرتديا عباءته الفيقة ، عليه بساطة الأعراب.
لكنه كان عالي الهامة ، مشدود القامة ، تتأجج بين جوانحه عزة الإسلام ، ويتوقد في فؤاده نور الإيمان.
فما أن رآه مقبلا حتى أومأ إلى أحد رجاله بأن يأخذ الكتاب من يده فقال عبدالله بن حذافة : لا ، إنما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدفعه لك يدا بيد وأنا لا أخالف أمرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال لرجاله : اتركوه يدن مني ، فدنا منه حتى ناوله الكتاب بيده . ثم دعا كاتبا عربيا من أهل الحيرة ، وأمره أن ينفض الكتاب بين يديه ،وان يقرأه عليه فإذا فيه :)) بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى عظيم فارس ، سلام على من اتبع الهدى((…
فما أن سمع من الرسالة هذا المقدار حتى اشتعلت نار الغضب في صدره ؛ فاحمرَّ وجهه ، وانتفخت أوداجه لأن النبي عليه الصلاة والسلام بدأ بنفسه… فجذب الرسالة من يد كاتبه وجعل يمزقها دون أن يعلم ما فيها وهو يصيح : أيكتب لي بهذا ، وهو عبدي؟!! ثم أمر بعبد الله بن حذافة أن يُخرج من مجلسه ، فأُخرج .
خرج عبد الله بن حذافة من مجلس كسرى ، وهو لا يدري ما يفعل الله له …أيقتل أم يطلق حرا طليقا؟
لكنه ما لبث أن قال :والله ما أبالي على أي حال أكون بعد أن أديت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وركب راحلته وانطلق .
هكذا كان الإسلام عظيما ، فعظم به رجاله .. لكننا حينما نتمعن حال المسلمين اليوم نجد البون شاسعا، وقادة الإسلام اليوم تأخذهم العزة في الإثم.. وشتان ما بين جهابذة الإسلام في ذلك الزمن ، الذين فتحوا الدنيا بأسرها وأخضعوا أهلها للإسلام عنوة ، أو اضطروهم إلى دفع الجزية عن يدٍ وهم صاغرون .
في زيارة للبيت الأبيض أيام حكم المجرم بوش ، ذهب حسني مبارك وهو رئيس أكبر دولة عربية لمقابلة بوش .. ومهما بلغ بوش من العزة فلن يبلغ مكانة كسرى في ذلك الزمن .. لكنه مع ذلك لم يكترث بزيارة مبارك له ، وجعله ينتظر أكثر من نصف نهار عن عمد ، وكان قصده أن يذله ويخزيه .. (انظروا غطرسة ذلك العلج) كيف تعامل بكبرياء وبكل خسة واحتقار، مع رؤساء تخلوا عن الإسلام فأذلهم الله وأخزاهم .
وتلاحظون أنه انقضى من عمر النكبة الفلسطينية نيف وستين عاما ، والمشكلة تراوح مكانها ، والعالم كله يبحث عن حل للقضية الفلسطينية لكنه لم يفلح، ولغاية الآن لم يستطيعوا إيجاد أي طريقة لحل هذه المشكلة المعقدة البالغة التعقيد ..
كيف لا .. وهي قضية احتلال أرض واغتصاب وطن ، وإحلال شعب غريب مكان شعب هو صاحب الأرض ، وهو صاحب الحق .. لكن العرب على كثرتهم لم يستطيعوا فعل شيء أمام هذا الظلم والاستبداد.. فإسرائيل كرست احتلالها، ونفذت مخططاتها بالكامل، رغم أنف العرب الذين تخلوا عن كرامتهم، وضعفوا أمام جبروت وطغيان إسرائيل التي لا تتجاوز في ذلك الزمن المليون ونصف المليون صهيوني على أرض فلسطين..
واليوم كما نرى كل العرب ، بأجسامهم الثقيلة وهاماتهم الضخمة ، وكروشهم المنتفخة ، وأوداجهم المتوردة من التخمة والسمنة ، أتحدى أن يتجرأ أي حاكم عربي بالمخاطرة بإيصال أية رسالة تحذير واحدة لأي وزير صهيوني يطلب منه ضرورة الانصياع لقرارات السلام الصادرة من الأمم المتحدة والتي طالبت إسرائيل مرارا بالتخلي عن الأرض الفلسطينية التي احتلتها في عام 1967م ، وليس من عام 1948م .. هذا التحدي أُطلقه اليوم ، وسيبقى ماثلا للعيان إلى يوم الدين .
.
قارنوا بالله عليكم بين ذلك الإعرابي (عبدالله بن حذافة) بشملته وعباءته وما عليه من بساطة الأعراب ، الذي سافر إلى بلاد فارس قاطعا كل تلك المسافات معرضا نفسه للأخطار ، كي يوصل رسالة نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ملك الفرس .. قارنوا بينه وبين حسني مبارك رئيس أكبر دولة عربية ، الذي ذهب يوما لمقابلة العلج بوش ، فيبقيه بوش ملقىً في الباب نصف يوم ، فأذاقه طعم الذل .. ليشربُ من نفس الكأس التي سقاها لرجال المسلمين في عهده البغيض ..
لكن .. فعندما تعلم إسرائيل بأن وعد الله حق ، وأن رجالا من المسلمين الأشداء الأتقياء قادمون للتحرير ، هناك فقط قد تنصاع لمنطق الحق والعدل رغما عنها ، وتقعد لمحادثات السلام بذلة ، وسوف تصغي قسرا لمنطق الحق والعدل .. ولو فكرت إسرائيل من هذا المنطق ، لعجلت في حل مشكلة الشرق الأوسط الكبرى ، وهي مشكلة الصراع القائم بينها وبين الدول العربية منذ أكثر من ستين عاما ، ولأعادت على الأقل كل أراضي الضفة الغربية التي احتلت منذ عام 1967 والتي صدر فيها قرار هيئة الأمم المتحدة (242) في عام 1967إلى أهلها الأصلين الذين شردتهم من أرضهم ، لكنها بقيت تماطل في تنفيذ ذلك القرار ، واستطاعت أن تجبر دول الغرب والولايات المتحدة للوقوف إلى جانب الظلم والاحتلال كل تلك العقود بسبب تخاذل الحكام العرب ، فاضطرت تلك الدول إلى الوقوف بجانب الاحتلال الظالم وإلى اليوم .
ولو جنحت إسرائيل للسلم على أساس قرارات الأمم المتحدة وانسحبت من كل الأراضي العربية المحتلة، لكانت هي الرابحة في هذه الحالة..إذ يمكن لإسرائيل إن قصدت بأن تحمي نفسها وشعبها باتفاقيات سلام مع جيرانها العرب عامة ، ومع أبناء الشعب الفلسطيني بشكل خاص ، على أن يعود اللاجئون إلى موطنهم ، وتعويض أولئك الذين لا يمكنهم العودة ، فتستقر الأمور في المنطقة ، ويعمُّ السلام في الشرق الأوسط وفي العالم كله ، لتنعم الشعوب العربية وشعب إسرائيل بالأمن والسلام .. لتُستغل بذلك ثروات الأرض التي باركها الله من أجل رفاهية البشرية، فيعم السلام كلَّ الأرض، وعندها يمكن الاستغناء عن سباق التسلح، والتوقف عن إثارة النزاعات والحروب بالمطلق.. وما أن تبدأ الدول الثرية بالتقاط أنفاسها بعد أن تضع عصا الحرب والنزاع أوزارها في المنطقة، تتأهب لحقبة تاريخية جديدة في عالم يعمه السلام والأمن ، لتقود حركة نهضة لم تعرفها الكرة الأرضية ولا شعوب الأرض كلها من قبل .. وسنرى عالما كله سلام وأمن لكل الدول ، وشعوبا تحيا في ظل السلام برفاهية عيش وكرامة نفس إلى أن تقوم الساعة .
وبهذا سيكون لنا أمل بأن تتغير الحياة وتتبدل، وتتحقق كل الأمنيات والأحلام.. فننام ونحن نحلم بغد مشرق .. بدل أن نحلم بالدمار الشامل، وقتل الشعوب.. والله سبحانه وتعالى هو نعم المولى وهو نعم النصير ..