وطنيّات بلا أوطان

mainThumb

09-10-2012 10:11 AM

 الإيرانيّون الذين تظاهروا قبل أيّام طالبوا سلطتهم بأن تنسى سوريّة ولبنان وأن تركّز على إيران وهمومها. وكانوا، إبّان انتفاضتهم «الخضراء»، قد فعلوا شيئاً مشابهاً، مُلحّين على أولويّة بلدهم بدلاً من الانشغال بغزّة ولبنان.

 

في هذا يذكّرنا أولئك الإيرانيّون بأنّ السياسات الوطنيّة إنّما تُبنى على قياس وطن بعينه، وعلى أساس اعتباراته وظروفه المحدّدة. وذلك على الضدّ تماماً من ثقافة سياسيّة سادت المنطقة العربيّة تُحلّ القضايا الإيديولوجيّة العابرة للحدود محلّ الأوطان القائمة، كما تمنح الوطنيّة معنى سلبيّاً، فلا تعود استجابةً لحاجات وطن ما، ولشروط تقدّمه، بل تغدو نزعة «مناهضة» لـ «الاستعمار» أو ما شابهه. ولئن شكّل الصراع العربيّ – الإسرائيليّ الذريعة الأقوى لانتعاش هذه «الوطنيّة» الخالية من الأوطان، والمتعالية عليها، فقد ساهم شعارا «الأمّة العربيّة» و «الأمّة الإسلاميّة» في تقويض الأوطان الوحيدة القائمة والممكنة لصالح أوهام متضخّمة تطمح إلى استعادة عصور ذهبيّة مُتوهّمة.
 
وربّما كان أهمّ ما تفعله الثورات العربيّة اليوم أنّها تردّ الاعتبار إلى الأوطان، رافعةً أعلامها ومستعيدةً ظروف نشأتها وأدبيّاتها، من دون أن تحفّ بذلك أيّة شوفينيّة نافرة ومقيتة. وهذا، والحقّ يقال، ليس النتاج الوحيد الذي تطرحه تلك الثورات، إذ تطرح إلى جانبه نوازع أخرى بعضها محلّيّ وضيّق الأفق، فيما بعضها الآخر لا يزال أسير اللغة والعقليّة القديمة لنظريّة الوطنيّة من دون أوطان.
 
إلاّ أنّ إعادة الاعتبار للوطن ومسائله، وإيلاء مصالحه الأولويّة، هما الوجهة التقدّميّة الوحيدة التي يمكن الدخول منها إلى السياسة، بدل ما كان سائداً من تحايل على السياسة باسم القضايا المقدّسة. فإذا ما تسنّى لهذه الوجهة أن تنتصر بعد مخاضات وتجاذبات لا بدّ منها، عندئذ يمكن القول إنّ الثورات أنجزت إحدى أبرز مهمّاتها الكبرى.
 
والإشارات على ذلك كثيرة ومتفاوتة، تنافس الإشارات، الكثيرة أيضاً، على نقيضه.
 
فحين يكرّم الرئيس المصريّ محمّد مرسي الرئيسَ الراحل أنور السادات، يكون يقول إنّ من أعاد أراضي مصر المحتلّة إلى مصر هو من يستحقّ التكريم. وهذا على النقيض من الرواية التي تشهّر بالسادات لأنّه «خان الأمّة العربيّة»، وتميل، في المقابل، إلى تكريم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي خسر أراضي مصريّة «فدى للأمّة العربيّة».
 
وحين تهبّ الثورة السوريّة في مواجهة نظام «ممانع»، هرب من الوطن بالقضيّة، مثلما هرب من الداخل بالخارج، فإنّها تقول بطريقتها إنّ مصلحة السوريّين وحرّيّاتهم هي محكّ السياسة الذي لا محكّ غيره.
 
هنا يُعاد الاعتبار لما هو محسوس وملموس بدلاً من الهوائيّات الإيديولوجيّة الساخنة التي لا تسمن ولا تغني من جوع. حتّى الإسلاميّون الآتون من إيديولوجيّات عابرة للأوطان، سيكونون، وهم في السلطة، مضطرّين للتعامل مع المحسوس والملموس حرّيّاتٍ واقتصاداً وتعليماً، وسيُضطّرون أيضاً إلى تعديل نظرتهم إلى الخارج «الكافر» تحت ضغط الحاجات الوطنيّة التي لن تُشبعها المواقف الإيديولوجيّة العامّة.
 
فهل يبدأ التاريخ واللغة السياسيّة العربيّان الحديثان، للمرّة الأولى منذ زلزال الانقلابات العسكريّة، بربط الوطنيّة بالأوطان، على ما هي الحال في بلدان العالم أجمع؟


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد