مذكرات لمناضل توجيهي

mainThumb

11-12-2012 10:21 AM

 تعود بي الذاكرة إلى ذلك العهد .. لا أدري ما الذي دفعني لأقلّب صفحات الماضي التي أتى عليها  الدهر ..؟! ربما لأنني بدأت أشعر بنهاية المطاف في صفوف المرحلة المدرسيّة التي سيبقى عبقها محفوراً في ذاكرتي ، وربما لأنني سأُودع طفولتي بعيونٍ دامعة .. آه كم أتمنى لو تعود بي الأيام إلى البداية ... البداية التي عرفتُ فيها معنى المدرسة ..  كنتُ متشوقة للذهاب إلى المدرسة ، مثل أُختي التي كانت تكبرني بسنتان ، فدائماً كنت أراها وهي ترتدي ذلك المريول الأزرق ، وتستعد للخروج إلى المدرسة .. كنتُ أنتظر ذلك اليوم بفارغ الصبر ففي ذلك اليوم سأكتشف المكان الذي كانت تذهب إليه من ساعات الصباح ولغاية ما بعد الظهيرة ؛ لتعود إلى البيت ولديها جعبة ممتلئة بالتعليمات والمتطلبات التي تطلبها منها المعلمة ..

 

مرت الأيام والشهور وجاء ذلك اليوم الذي انتظرته .. استيقظتُ من ساعات الصباح الباكر ... أبستني أُمي الزي المدرسي ووضعت لي الشبرة البيضاءعلى شعري ، كانت عيناها تنظران إليّ بشغف لا أدري لما رأيتُ الدمع يتلألئ في عينيها ..؟! ربما لو سألتها لقالت لي عندما تكبرين ستعرفين السبب .. شعور غريب يتملكني قبل الوصول إلى المدرسة ، بصحبة أُمي وأُختي التي كانت تكبرني بثلاث سنوات سرتُ في الطريق إلى المدرسة ، ويدي مشبوكة مع أمي التي كانت تزجُ بي بمزيد من النصائح وحرصت على أن تقول لي عليكِ السير في هذا الطريق في الذهاب والإياب من المدرسة ، وعندما وصلنا إلى باب المدرسة شعرتُ ، بشيء من الرهبة .. تُرى ما هو المجهول الذي سأكتشفه ..؟! دخلنا إلى المدرسة  التي كانت تضم باحة كبيرة ومبنى من عدة طوابق .. بعدها توجهنا إلى غرفة المعلمات .. عرفتني أمي بمعلمتي وأوصتها بي خيراً ثمّ خرجنا إلى الساحة ، وقالت لي أمي .. : " هناك سيكون الطابور الذي ستصطفين به " ثمّ صعدتُ إلى الصفّ برفقة الزملاء .. صوت غريب يعجّ بالمكان لاحقاً عرفت أنه صوت الجرس الذي يُحتم علينا إلتزام النظام في المدرسة بعدها غادرت أمي وبقيتُ وحيدة ، وبدأتُ بالبكاء ربّما كان هذا رد فعل فالجميع من حولي يبكون .. شعور غريب يُخالطه شيء من الخوف ...

المهم مضى الوقت وعدتُ إلى البيت حاملةً صورة مشوشة عن المدرسة ، هل هي مكان غريب يبكي منه الأخرون ..؟! أم هي مكان يعطينا معاني جديدة للجمال ، مرت الأيام وبدأتُ أتعلق شيئاً فشيئاً بالمدرسة ، وبدأ مفهومي عن المدرسة يتوسع ، مرّ لي في هذه المدرسة التي كان منها منطلقي للحياة ست سنوات وبعدها كان يتوجب علينا الإنتقال إلى مدرسة أُخرى كانت هذه المدرسة تبتعد قليلاً عن المدرسة الأُولى حيثُ كانت للمراحل العليا .. ربّما كانت هذه نقلة نوعية بالنسبة لي .. فمواد الصفّ السابع أصعب والتنافس شديد وأُسلوب المعلمات عقيم لكن بالطبع سأتعلّم منها مفهوما أكبر عن الحياة مرّ لي في هذه المدرسة أربع سنوات حتّى الصف العاشر ... ما أذكرهُ عن نفسي أنني كنتُ أحب المسرح والإذاعة المدرسية ، إنتهت المرحلة المدرسيّة ووصلنا إلى المستوى الثانوي حيثُ كان لا بدّ لنا من الإختيار بين المسارات الأكاديمية كنتُ الأولى ومعدل 95 يؤهلني لإختيار ما أُريده لكني لم أجد نفسي مع قوانين الفيزياء ومعادلات الكيمياء ، لكنني كنتُ أحد المولعين بقصائد أبوالقاسم الشابي وإبن زيدون  والسيّاب ....

انتهت الرحلة الدراسية مع ما حملته من مغامرات ، ومشاكسات الطفولة ... إخترتُ الفرع الأدبي عسى أن يُكتب لنا الخير فيه ... وهكذا مرّت الأيام وانتهى الفصل الأول ثانوي ، ووصلنا لخط النهاية والرحلة المصيرية... كنتُ أخاف من تلك السنة فاسمه يُثير الرهبة ، التوجيهي أو التوجيعي  كما يسموه  "المقصرين " بالطبع تكثيف أكبر للجهود ، وكما قال الشاعر وما نيل المطالب بالتمني كانت هذه السنة على درجة كبيرة من التنافس ، وكنتُ أُنافس الحصول على المركز الأول ... مرّ الفصل الأول من سنة التوجيهي ومرت معاناة الدراسة فيه التي هونها جمال الشتاء البارد حيثُ كنتُ أرفض وجود المدفأة في غرفتي خوفاً من أن أُصاب بالنعاس ... فكان كل همّي الدراسة ..  وفي فترة الإمتحانات ... كنتُ أدخل إلى غرفتي من ساعات الصباح الباكر وحتى غروب الشمس كنتُ أكره الدراسة في الليل ، كنتُ أحرص على أخذ نصيباً وافياً من الراحة والنوم ؛ كي أكون قادرةً على التركيز...  إنتهت الإمتحانات الوزارية ، وانتهت معها عطلة منتصف الفصل الأول ... وبدأ الفصل الثاني وكان الجميع على أعصابه ..  وفي يوم النتائج استيقظتُ باكراً وصليت الفجر وجلستُ مع نفسي .. وعدتُ بذاكرتي إلى الوراء .. وترددت في خلجات نفسي العديد من التساؤلات .. تُرى هل سأحصل على المركز الأول..؟! بدأ العد التنازلي للوقت والأعصاب تأخرت النتيجة في الوصول ... وفقدتُ أعصابي لكن ما أجمل أن يتعب الإنسان وفي النهاية يتفاجئ بنتيجة مدهشة حصلت على معدل (94) وكان المركز الثاني من نصيبي... لكن مازال الأمل موجوداً في الحصول على المركز الأول فلازال هناك الفصل الثاني .. كنت أسمع من مدرس اللغة الإنجليزية أنه على طالب التوجيهي أن يأكل الكتب أكلاً في الدراسة وأن يُصاب بقصر في النظر ..عندما شاهدتُ دموع امي تذكرت تلك الدموع في أول يوم لي في المدرسة وفهمت قصدها عندما قالت لي عندما تكبرين ستفهمين سبب هذه الدموع فقد كانت ترى فيّ أملاً يبني مستقبلاً علمتني أنه من أراد أن يبني شيئاً فعليه الصعود على السلكم درجة درجة لكي لا يسقط كنتُ أملّ من الدراسة وعندما كنتُ أسمع صوت أخوتي يلعبون كنتُ أتشوق للخروج  ومشاركته اللعب لكنني حبيسة للكتب التي تعودت عليها بعد ان كنتُ أمل منها بل وأصبحت الدراسة جزءاص من الروتين اليومي لحياتي وها أنا أستعد في هذه الأيام القليلة لتوديع المدرسة ومغادرتها والإنطلاق منها إلى مدرسة أكبر " الجامعة " الحقيبة ..المريول الأزرق ..الإذاعة والمدرسة لا أحتمل فراقها سأحنّ لتلك الأيام وسأتذكر كل من كان معي وسار بي إلى النجاح باقي شهر لبدء الإمتحانات الوزارية للفصل الثاني ؛ وخوفي يشتدّ أكثر من الفصل الأول ، فهذه المرحلة حاسمة وهي التي ستحدد المصير ، وبعد غياب طويل ها أنا أعود لهذه الورقة لأكمل ما بقي من سطور عن مرحلة كانت من أجمل المراحل التي عشتها في حياتي .. مرحلة جديرة بأن تُدون وتقرأ ..

 

وأخيراً انتهت فترة الإمتحانات وبدأ الإنتظار للنتائج .. وحصاد تعب سنة التوجيهي .. بل تعب الأحدى عشرة سنة ... وها أنا تراني أُدون ما علق في ذاكرتي من تلك الأيام ... التي سيشتدّ اشتياقي إليها نعم سأشتاق إليها وسأحن إلى الصراع مع الكتب..  ها هي الساعات تمر والأيام تنقضي والأسابيع تمضي تُرى ما الذي سيكشفه القدر..؟! وهل سأحصل على ما أتمنى  هل ستكون لي المرتبة الأولى .. كم هي جميلة تلك الأيام التي كنتُ أقضيها مع الكتب ..؟! لا أدري لما يتوهج الأمل بداخلي ، ويجعلني أستشرف المستقبل ساعات هي التي أحس فيها بالإنجاز العظيم .. الذي سأحققه في الفصل الثاني ، فقد أصبح لدي الأمل الأكيد بالحصول على على المرتبة المركز الأول... يمر علي شريط الأحداث التي مررت بها في هذه السنة الرائعة ... ولكم أتذكر الأثر العميق الذي تركته بداخلي ... ها أنا في سطوري هذه .. أُودع مرحلة كونت جزءاً مهماً من شخصيتي .. إنني أُودعها بعيون يعتصرها الحزن ... طفولتي .. نعم أودع طفولتي التي قضيتها لمدة إثنا عشرة سنة في المدرسة ... التي علمتني معنى الحياة .. وبالطبع لا بدّ لي من أن أكمل ما بقي من سطور ... ستخلّد مرحله هامة في حياتي .... وبعد غياب طويل ها أنا أعود لنفس الورقة ؛ لأكمل ما بقي ... ها هي النتيجة .. وحصاد سنة التوجيهي وفعلاً من صبر واجتهد ... نال ما تمنى  فقد حصلتُ على المركز الأول على مستوى مديريات المحافظة .. كان المركز الأول من نصيبي فرحتي بنجاحي لا تعادله فرحة وبالطبع الحمد لله على كل شيء ... المهم أن هذه المرحلة ستبقى خالدة ..؟! وستبقى جميع الذكريات الحلوة والحزينة دائماً في خاطري .. ولن يدقّها ناقوس النسيان ، وستبقى القصيدة الخالدة التي عشقتها  في خاطري ولن أنساها ما حييت...

هذه القصيدة كانت مطلوبة معنا في مادة اللغة العربية وهي أنشودة " المطر " لبدر شاكر السيّاب ...
مطر .. مطر .. مطر ..
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر ..
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر ..
عيناك حين تبسمان تورق الكروم ..
وترقص الأضواء في نهر ..
مطر.. مطر .. مطر ..
بالأمس حين مررت بالمقهى .. سمعتك يا عراق 
كنتِ دورة إسطوانة ..
هي دورة الأفلاك من عمري .. تكوّر لي زمانه 
في لحظتين من الزمان .. وإن تكن فقدت مكانه ..
هي وجه أمي في الظلام ... 
وصوتها يتزلقان مع الرؤى حتى أنام ... 
هي النخيل أخاف منه .. إذا ادّلهمّ مع الغروب ..
تخطف كل طفل لا يؤوب .. من الدروب 
هي المفلية العجوز .. وما توشوش عن حزام ..
وكيف شقّ القبر عنه .. أمام عفراء الجميلة ..
فاحتازها إلّا جديلة...
 
   هذه القصيد تغنى بها السيّاب في موطنه الذي حُرم منه وليس كما فهمها الآخرون وغناها محمد عبده فهو لم يخاطب المحبوبة بل خاطب العراق ...


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد