داعش .. بواعث الظاهرة

mainThumb

23-11-2015 08:03 PM

يجمع كل الفرقاء والأطراف في الدول العربية على أن  داعش سرطان وعدو مشترك للجميع إلا أن الاختلاف واقع بين الجميع في الباعث الحقيقي لظهور داعش .

 

في الوقت الذي تتبنى قوى الإسلام السياسي نظرية أن داعش هي ظاهرة طبيعية وردة فعل على واقع التهميش والإقصاء وخنق الحياة السياسية وان داعش لم تكن لتظهر لولا البيئة الخصبة وخاصة الفقر والبطالة وانعدام الأفق السياسي والتهميش والإقصاء وتمدد السطوة الأمنية والقهر والإذلال يدللون على ذلك انه منذ نشأة هذا الفكر في سجون عبد الناصر في ستينيات القرن الماضي إلى أفغانستان إلى العراق بعد سقوط بغداد إلى  سوريا بعد موجة العنف الذي واجه بها النظام السوري الثورة السلمية إلى التهميش الذي عاشه بدو سيناء في مصر طوال تلك العقود .... الخ  من تلك الأمثلة التي تعزز وجهة النظر هذه .
 
في المقابل تنظر كثير من الأنظمة العربية الشمولية وبعض القوى العلمانية " المعادية لظاهرة التدين "المتحالفة مع تلك الأنظمة إلى أن داعش هي صنيعة انحراف نظرة دينية في بعض كتب التراث الدينية وان هذا التراث هو من أنتج داعش والقاعدة وباقي الجماعات المتطرفة أو التي سيكون  لديها استعداد فطري للتطرف ويرون الحل بتنقية هذا التراث وإعادة إنتاج الخطاب الديني بما يواجه هذا التطرف والانحراف .
 
يرى فريق ثالث من المؤمنين  بنظرية المؤامرة في تفسير الأحداث - وهؤلاء عادة من الشرائح المتعاطفة مع التيارات الإسلامية والداعمة للإسلام السياسي بكل مكوناته -  ويرون أن داعش صنيعة غربية إيرانية إسرائيلية  لتشويه الإسلام السني وضرب ثورات الربيع العربي ويسوقون جملة من الأحداث  للتدليل على ذلك كمماطلة التحالف الدولي وجديته في توجيه ضربات موجعة لداعش وحصول داعش على مئات سيارات الدفع الرباعي والتي تقول بعض التقارير أنه تم استيرادها باسم نوري المالكي رئيس الوزراء الأسبق  وكذلك الانهيار المفاجئ للجيش العراقي أمام قوات داعش في صيف العام الماضي  وكأنها كانت عملية تسليح ودعم غير مباشرة  إضافة إلى حرية التنقل التي يتمتع بها و يعيشها التنظيم بين الموصل والرقة  .... الخ  من تلك الروايات والأحداث التي تعزز وجهة نظرهم .
 
بعيدا عن النظرة الأحادية التي يحاول كل طرف ترويجها ليحافظ على مكاسبه أو يحقق من خلالها بعض المكاسب أو تفسير الظاهرة يمكن القول  بان داعش  ظاهرة  نبتت من اتحاد مجموعة ظروف معقدة و بنسب مختلفة .
 
لنظرة بسيطة وسطحية  لبعض الهنات في التراث الإسلامي الذي امتد إلى أكثر من أربعة عشر قرنا ونصف القرن تجد في بعضه كل ما يحتاجه داعش لمحاولة إخراج  تصرفاته  إلى حيز الوجود وهو يتوكأ إلى نظرة دينية  تروج لفعله على انه عمل بطولي استشهادي يأخذ  صاحبه إلى جنات الفردوس ليداعب صدور الحور بعد أن يتم ما يريد القيام به من تفجير الناس أو قتل الآخرين الكفار وأهل الجاهلية على حد وصفه سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين .
 
التراث الديني (ويخرج من هذا التعريف أو المصطلح القران الكريم وصحيح السنة ) أو حركة التأليف الدينية مرت بجميع المنعطفات التي مرت بها الأمة في الوقت التي كانت تتربع  الأمة على عرش الحضارة وبناء المدنية  كانت حركة التأليف تتجه إلى بناء ما كل هو إنساني  مدني  كما كان الأمر على عكس ذلك تماما عندما كانت الأمة  تعيش حالة استعمار وذل وهو ان كانت حركة التأليف تأخذ منحى النقيض فالتراث الفقهي والفكري هو مرآة  لتاريخ الأمة وكما به المشرق  به المتطرف وهذا الجزء الظلامي المتطرف هو الذي تعيش وتقتات عليه داعش وتروج من خلاله لنظريتها الدينية المنحرفة .
 
يمكن الجزم بان الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المنغلقة والبيئة اللاديمقراطية التي  تعيشها المنطقة والظلم والقهر والإبادات الجماعية هي ظروف كاشفة للتطرف لا منشأ له ، وبمجرد وجود هذه الظروف السياسية  السيئة يستطيع أصحاب الايدولوجيا المنحرفة من استنفار كل ما هو  منحرف وسيء في كتب التراث والتاريخ  وتوظيفه لإنتاج تلك القنابل البشرية الموقوتة التي تنفجر على شكل قنابل فكرية عنقودية لا متناهية في الآثار المدمرة والعابرة للحدود.
 
ما يعزز نظرية أن الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية السيئة كاشفة لا منشاة للتطرف انضمام أشخاص لا علاقة لهم وغير موجودين بالقرب من الظروف الحاضنة للتطرف ولكنهم ينحازون لداعش  بناء على أسباب وروايات دينية منحرفة لا أسباب حياتية وبيئة محيطة إذ نرى شباب غربي من أصول غربية من الطبقة المتوسطة ينضمون إلى داعش شباب وفتيات من أصحاب العيون الزرقاء والبشرة البيضاء يعيشون حياة الغرب المنفتحة والظروف المثالية في كل المجالات السياسية والاقتصادية  ينضمون  للتطرف والإرهاب بمحض الإرادة والاختيار كل ذلك يؤكد بان الظروف والبيئة السياسية والاقتصادية بالأصل عوامل كاشفة ومساعدة لا منشاة للتطرف .
 
من المؤكد بان داعش هي صناعة ذواتنا وصناعة ظروفنا وبيئتنا ومن مساجدنا ومن بين ظهرانينا خرجت ولا علاقة لها بالمؤامرة ولا صنيعة الغرب أو إسرائيل  أو إيران  كما يروج له البعض ،  المؤمنون بنظرية المؤامرة في تفسير الحدث يتناسون بان السياسي الغربي  والأمريكي على وجه الخصوص لا ينظر إلى  أي حدث على انه اسود وابيض وإنما ينظر إلى أي شيء موجود على الأرض كحالة يمكن الاستفادة منها في خدمة المشروع الذي يحمله ، أمريكا حاولت الاستفادة من داعش منذ أن ظهرت في سوريا والعراق دون  أن يكون لها يد في إخراج داعش إلى الوجود وتركتها تتمدد كي تستفيد من وجودها فعزلت بداعش نور المالكي  مندوب إيران وحامي نفوذها في العراق،  بداعش استطاعت أن تفشل أي تغيير مفاجئ للنظام في سوريا دون أن يكون لها بصمة ومصلحة في ذلك ، بداعش أضعفت المعارضة التي يمكن أن تشكل تهديد أو خطر على المصالح الغربية والإسرائيلية في المستقبل ، وبداعش استطاعت أن تستدر مزيد من الصفقات و الأموال  وبيع كثير من الأسلحة لمواجهتها ، إيران أيضا استطاعت أن تحول الصراع في سوريا إلى صراع طائفي سني شيعي مما ساعدها في شرعنة وجودها ووجود حزب لله في سوريا حفظا لمصالحهم، المؤمنون بنظرية المؤامرة يعتقدون بان السياسة هي اللون الأبيض والأسود صديق وعدو يتناسوا أن السياسة تعني فقه البحث عن المصالح في ظل الظروف الموجودة وان الأمريكان والغرب وحتى إيران وإسرائيل ينظرون لداعش على أنها حدث يجب الاستفادة منه بما يحقق مصالح كل واحد فيهم  كما استفادوا من التيار الجهادي في أفغانستان  لمواجهة  الروس  في أواخر  القرن الماضي .
 
محاولة التشخيص السليم ستقود حتما إلى العلاج الصحيح ، مجرد تشخيص ظاهرة داعش على أنها انحراف ديني فقط كما صورها النظام العسكري في مصر وان الحل  يكون  بمزيد من الضغط على مشيخة الأزهر  لإعادة إنتاج الخطاب الديني لن  يقود إلى  حلول لهذه المشكلة  بل على العكس من ذلك  تماما كما رأيناه من انفجار للظاهرة في سيناء بشكل مرعب ومقلق ، كما أن محاولة تحميل وزر التطرف للظروف السياسية المحيطة لن يؤدي لحل  المشكلة ولو كان التوصيف صحيحا لما خرج علينا العقل المدبر لهجمات باريس اباعود من  قلب باريس بلد النور ومنبت الحرية والديمقراطية  هذا العقل المدبر القادم من الشريحة الاقتصادية المتوسطة ، أما الأخطر محاولة تشخيص ظاهرة داعش بأنها مؤامرة  غربية إسرائيلية إيرانية مع عدم نفي وجود اختراقات استخباراتية ، وبذلك نكون تجاهلنا كل محركات نشوء هذه الظاهرة وذهبنا للتفسير الأقرب إلى السطحية وخداع الذات والكسل في مواجهة الظاهرة  .
 
داعش اليوم مخلوق فكري مشوه تشاركت في خلقته هنات التراث المنحرف كأساس للميلاد والظروف السياسية المنغلقة أساس  للنمو والترعرع متماهيا ذلك مع الرغبة المصالحية الغربية في الاستفادة من هذا الحدث لتعظيم المكاسب السياسية لهم في المنطقة .
 
كل هذا يقودنا إلى ضرورة إعادة إنتاج الخطاب الديني من أهل الاختصاص وتركيز حركات  التحرر على النضال السياسي من اجل الديمقراطية وإيجاد بيئة سياسية جادة ومثمرة تندمج بها كل مكونات وشرائح المجتمع ، وهجران نظرية المؤامرة في تبرير وتفسير أي حدث جديد لا يرضينا ، وبعد ذلك ستكون داعش ظاهرة معزولة لا وجود لها لا في الطبقات المتوسطة  ولا حتى في الطبقات الكادحة القابلة للتطرف .


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد