حين يطرح المرض شاعرا تنهال عليه الذكريات وتكثر الأماني ويزداد في صدره اللجب والصخب والسأم ناهيك عن القلق وعدم الرضا .. وهذا ما حدث لبدر شاكر السياب فترى شعره مزيجا من كل ما ذكرت ..
وحين يأتي ذكر الشعراء والمرض يقفز إلى ذهني بدون وعي أو بوعي الشاعر السياب وأمل دنقل وكلما ذكرت بدر شاكر السياب قفز إلى مخيلتي ديوانه ( شناشيل ابنة الجلبي ). ولست أناقش هنا إعجابه الزائد والمفرط ب (ت.س.إليوت ) ولا بمصادر شعره فقد تحدث فيه الكثيرون من الأدباء والنقاد . ولكن لأتصفح ديوانه الآنف الذكر لأتعرف إلى بعض أحلام السياب التي لم تتحقق بالطبع :
ثلاثون انقضت ، وكبرت ، كم حبّ وكم وجد توهج في فؤادي
غير أني كلما صفقت يدا الرعد مددت الطرف أرقب ، ربما ائتلق الشناشيلُ فأبصرت ابنة الجلبي مقبلة إلى وعدي ولم أرها ، هواء كل أشواقي ، أباطيل ونبت دونما ثمر ولا ورد.
وفي قصيدة أخرى ينعي ضياع أحلامه ويقول :
إرمْ في خاطري من ذكرها ألمْ ، حلم صباي ضاع .. آه ضاع حين تمْ وعمري انقضى .
وحين يستنجد صائحا أحبيني يقول :
وما من عادتي نكران ماضي الذي كانا ، ولكن كل من أحببت قبلك ما أحبوني ولا عطفوا عليّ .
وحين يتحدث عن قريته ( جيكور )يقول في نهاية القصيدة راثيا أيامه وصباه :
ما أقسى الوداع !! آه ..لكن الصبا ولى وضاع الصبا والزمان لن يرجعا بعدُ فقري يا ذكريات ونامي .
وحين تؤرقه ذكرياته وآلامه وأمانيه المنهارة يقول :
يا رب لو جدت على عبدك بالرقاد لعله ينسى من عمره آلاما .. لعله يحلم أن يسير دونما عصا ولا عماد .. ويزرع الدروب في السحر .. حتى تلوح غابة النخيل .. تنوء بالثمر .. يأكل أو يجمع الزهر .. حتى إذا ما انطلقا ..وراح يطوي الطرقا .. أحسّ أو ذكرْ بأنه بلا عصا سار وما شعرْ يا رب لو جدت على عبدك بالرقاد ..لأنه يذكره السهر .. بأنه أقل من بشر ْ.
هكذا بلغت به الحال .. ومع هذا فلا يزال يشده خيط أمل رفيع وهو يعالج في لندن بأهله يقول وقد استبد به الحنين :
ولكني أحنّ .. فهل أعود غدا إلى أهلي ؟
نعم سأعود .. أرجع لا إليها بل إلى غيلان وغيلان ولده والضمير في إليها عائد إلى زوجته التي أصرت على رجوعه إلى بلده قبل أن يتماثل للشفاء مما أغضب السياب ولكن الشاعر المريض ينسى في لحظة من لحظات الشقاء آماله وأمانيه بالشفاء فيطلب الموت لنفسه يقول:
ويا ليتني متّ . إن السعيد من اطّرح العبء عن ظهره .. وسار إلى قبره ،ليولد في موته من جديد.
ولكن للسياب أمنية قبل أن يموت يقول في قصيدة له :
لأكتب قبل موتي أو جنوني أو ضمور يدي من الأعياء خوالج كل نفسي ، ذكرياتي ، كل أحلامي وأوهامي وأسفح نفسي الثكلى على الورقِِ ، ليقرأها شقي بعد أعوام وأعوام .. ليعلم أن أشقى منه عاش بهذه الدنيا .
ويودع في نهاية القصيدة أصحابه وأحباءه :
إذا ماشئتموا أن تذكروني فاذكروني ذات قمراء وإلا فهو محض اسم تبدد بين أسماء .. وداعا يا أحبائي ..
وهكذا يودع آماله وأحلامه وأصحابه وأحباءه كما لو كان يشعر بدنو أجله ولا ينسى أن يودع زوجته بأرق العبارات قائلا :
أحبيني إذا أدرجت في كفني .. أحبيني
ستبقى حين يبلى كل وجهي .. كل أضلاعي قصائد كنت أكتبها لأجلك في دواويني .. أحبيها تحبيني . وقضى الشاعر السياب ولكن الذي ليس ينقضي هذا الخيط من المرارة الذي يحسه ويشعر به كل من يقرأ له وكل من يكتب عنه كما أحسُ به وأشعرُ الآن .