حاذروا الوشاية

mainThumb

12-04-2016 09:38 AM

تدرج لدى بعض الزملاء كلمات يصعب علي أن أفهم السبب في استخدامها. فالعربية، بالدرجة الأولى، لغة جمالية، سماعية، إيقاعية، غنية بالمفردات، بحيث تلغي الحاجة إلى بعض التعابير ذات الوقع الغامض والمعنى الملتبس.

 

وقد كُثر في الآونة الأخيرة، على سبيل المثال، ترديد كلمتين تثيران لدي نوًعا من الحساسية.

 

الأولى، كلمة «تشي»، بمعنىُتشير أو تومئ أو توحي. يرّن سماعها ثقيلاً وحاًدا. ولو تحقق الزملاء المكثرون من هذا التجديد اللغوي لكانوا اكتشفوا أنها خطأ في الأساس: «تشي»، تعني كذب في القول وفًقا لجميع المراجع اللغوية المتوافرة. ومنها وشاية، وهي أبشع العادات والطبائع، تعادلها سوًءا وسقًطا، النميمة.

 

الكلمة الثانية التي درجت حديًثا وكُثر استعمالها حتى فاضت بها الصحف والتلفزيونات هي «مخرجات». لعل أصحابها يقصدون «ُخلاصات» أو «نتائج»، فأين الضرر فيهما؟ طبًعا الكلمة ليست خطأ، لكنها هّنة، وفي الغيرة على اللغة، الهّنة ليست بالقليلة. لا بد أن أوضح أيًضا أنني من الَغيارى، ولست من المتزّمتين، ومرجعي في هذا الصدد الأستاذ فاروق شوشة، أحد العلماء الذين يدعون إلى فتح أبواب اللغة أمام التجدد. وأنا أعتقد مثلاً أنه لن يحدث للغة أي خْطٍب إذا قلنا «القضية نفسها» أو «نفس القضية». الصحيح أفضل من المعتّل، لكن الإبدال في التركيب ليس خطأ ولا كارثة، خصوًصا إذا لم يغير في المتن أو المعنى أو السْكب.
 
 
 
 
لن يتوقف النقاش حول اللغة بين المجّددين والحّراس. وكلاهما، في رأيي، صادق في محبتها وغايته واحدة، وهي حفظها من الترّدي. وليس بين المحدثين من يدعو إلى التغيير كما فعل مصطفى كمال في تركيا عندما فرض كتابة اللغة بالحرف اللاتيني من أجل مجاراة الأوروبيين. وعّلق يومها الدكتور زكي مبارك قائلاً: وما شأن أتاتورك في أمور اللغة؟ فإن معرفته موصوفة في الشؤون العسكرية. وبالفعل إذا تأملنا اليوم في التراث التركي العلمي أو الأدبي أو الفكري، فماذا نرى أن الحرف اللاتيني قد أضاف؟ لا شيء بالتأكيد، فاللغة وسيلة وواسطة للمحتوى. ومن تعّدى إلى العالمية من الكّتاب الأتراك، مثل ناظم حكمت أو أورهان باموك، مع أنه كتب بلغته، فقدُترجم إلى لغات عالمية كثيرة.
 
 
وقد دار في القرن الماضي جدال حاد وممتع بين الدكتور زكي مبارك والمفكر سلامة موسى حول قول الأخير «إن اللغة لِخدَمتنا ولسنا نحن لِخدَمتها».
 
 
وأراني مع مبارك الذي رد يومها بالقول: «لا يا سيدي، إن اللغة ليست دابة تمشي على أربع. نحن صاغة اللغة، وهي تضعف وتقوى وفًقا لما فينا منُضعٍف وقّوة، فللأمم القوية لغات قوية، وللأمم الضعيفة لغات ضعيفة».
 
يضيف الدكتور مبارك: «إن رأيت إنساًنا يعنى بلغته، فلا تحسب أنه يلهو ويلعب، ولكن تذّكر أنه يؤدي مهمة عقلية لا يزهد فيها إلا من يجهلون قيمة اللغات في الدلالة على حضارة الشعوب».
 
 
أعود إلى «تشي» وإلى «مخرجات» ووقعهما في السماع وموقعهما في الدلالة، وأناشد الزملاء الأعزاء الانتباه إلى جرس الشين في اللفظة ووقع الوشاية. وأما الذين ترجموا «مخرجات» حرفًيا عن الإنجليزية، فأحيلهم تكراًرا إلى «خلاصات» و«نتائج»، وليس إلى «مفاعيل» التي يستخدمها بعض الأخوة المغاربيين خطأ بمعنى الانعكاسات والتأثيرات، لأنها جمع مفعول، من مفعول به ومفعول (فيه) وليست ما يقصدون.
 
 
 
 
صحيفة "الشرق الاوسط"

 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد