من القُمْقُم

mainThumb

15-08-2022 01:18 PM

على كرسيّ الهزاز، رميت برأسي المثقل فوق كتفيه، يضمني مثقلا؛ لكنه مرغما كمسيرنا المحمّل بشتى أحمال السنين، آخذا بي إلى الأمام حينا، وإلى الوراء تارة، كما هي الحياة، يهزني لتمر في ذاكرتي آلاف الصور، يريح جسدي هزه، لكنه يعصف بمخيلتي.

أتراه حلما أم واقعا؟ يجثم فوق صدره مارد مفتول العضلات، وقد فتل شاربيه ليزيد من حدة تقاسيم وجهه جدية مزيفة، يرتدي بدلة منمقة، وربطة عنقه قد تدلت كما العمر يمضي مترهلا يشوبه التعجل والملل.

أشد ربطة عنقه محاولا الإفلات من قبضته، فينهض ضاحكا، مقهقها، ثم يصغر كما المنطاد وقد تسلل منه هواؤه، تصاغر... تصاغر وطار خارجا من نافذة أفكاري، ليعود لي من باب الحياة، من جديد مارد مفتول العضلات، بلحية طويلة، وجلباب منمق.

ويحك! من أنت؟
أنا الحقيقة.
الحقيقة؛ ليس لها إلا وجه واحد، ثابتة لا تتغير، أنت كاذب.

قد عرفت كينونتي، نعم... أنا حقيقة عالمكم، أنا أنتم، أفكاركم، أقوالكم، أعمالكم، أهواؤكم، رغباتكم، شهواتكم، نطفكم، أجنتكم في بطون امهاتكم، أطفالكم، رجالكم، نسائكم، شيوخكم، أمواتكم.

ماذا يقول هذا الكذاب؟!
ابتسم بسخرية، ثم قهقه وزلزل المكان، وقد صم أذني بضحكاته، ثم فجاءة عبس وقال: أيها الزنديق!
من... أنا؟
نعم... أنت!

هيا أخرج من قمقمك تلك المردة التي تحبسها ظلما وجورا، أطلق لها العنان لتسبح في فضاء الحرية، أعطي للحياة معناها.

فكل ما تراه من حولك كذب، صرخة أطفالكم عند الولادة، براءتهم صخرة سرعان ما يدفعها طوفان جارف من الخطيئة، لقاءكم، وداعكم، دموعكم سيلا من القطران يزكم الأنوف مخلوطا برائحة الدم، المنكه بطعم حلاوة زائفة، تخفي في طياتها مرارة آلام وفواجع لا تنتهي.

ثم أشار بإصبعه الغليظ البشع إلى ذاك السرك الجاثم على هضبة الحياة، هل ترى ذلك الأسد المروض؟ إنه كبرياؤكم المزيف! وهل ترى مروضه يهز له السوط فيجعله يقف على قدميه، أو يقفز من حلقات النار؟ أنا مروضكم، أنا سيدكم، أنا حقيقتكم.

توقف أيها الكرسي، قد أصابني الدوار، كل ما حولي يدور، كما الكون في دورانه حول نفسه وبعضه، اختل توازني لأجد نفسي في سيل عرم متسارع، سرعان ما حطني نحو نهر يجري، يتسارع حينا ويتباطؤ أخرى، يرتطم جسدي المنهك ببعض صخوره، ثم تسارع بجنون حتى رمى بي من أعلى شلال ضخم يصب في بحر لجي، تقاذفني الموج، من فوقه موج البعيد، ومن تحته موج القريب، حتى استقر بي المكان في قعر المحيط.
أيها الكرسي اللعين توقف! فصاح بي الكرسي: أنت من تهزني! عليك أنت أن تتوقف.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد