الصفقة

mainThumb

23-08-2022 12:07 AM

طيلة ذلك المساء الخريفي أجهده التفكير كيف يطرق الباب ؟ وماذا يقول لها ؟ وهي تعلم تماما ما العلاقة المتينة القوية الأواصر التي كانت تربطه بزوجها المتوفى .. وكانت دائما وهي زميلتهما في الجامعة تبارك هذه الصداقة حتى وتضرب بها المثل .. كيف ستفتح له ( اعتدال رشدي ) الباب ؟ وهل ستستقبله ؟ في الحقيقة أحسّ بأنّ واجبا مقدّسا ملقى على عاتقه تجاه صديقه الذي لم يجفّ تراب قبره بعد كما يقولون ، وتجاه هذه المخلوقة الوديعة والتي لها من اسمها الشيء الكثير .. قمحيّة البشرة ، معتدلة القامة ، ليست بالمكتنزة ولا بالنحيفة ، عيناها في سواد ليل خريفي .. لم يمض على زواجها من صديقه ( ابراهيم إحسان ) سوى ثلاثة أشهر فقط .. وإبراهيم صديقه الصدوق منذ أيّام الإبتدائية .. يشابهه طولا وعرضا ولهما نفس الوجه والملامح وكانا لا يختلفان في مشرب أو مأكل حتى أن اسميهما كانا متطابقين ..
كانت الريح لا تهدأ عن العويل وكانت أوراق الشجر تتطاير على طول وعرض الشارع الموحش المظلم الطويل .. وقلب ( ابراهيم شكري ) يتفطّر ألما وحسرة .. ها هو صاحبه يمضي وها هي امرأة صاحبه وحيدة تعيسة كورقة من أشجار الزيتون ذابلة طوّحت بها رياح الخريف..
بأيّ وجه وبأية سحنة يقابلها ، ولم يكن أمامه وهو في الطريق إليها سوى صورة صديقه ابراهيم المتماوجه مع كل هبّة ريح باردة...أخرج يده اليمنى من جيب البالطو الأسود الذي كان يرتديه..كوّرها ونفخ فيها مستعيذا بالله من هذا البرد القارس ومن هذه المهمّة الثقيلة التي جاء من أجلها ... بلغ الآن باب البيت ، توقّف امام اللافتة النحاسية التي كانت تحمل اسم صديقه الوحيد الذي كان في هذه الدنيا الفانية .. أدركته التعاسة مرّة واحده .. تحركت أرنبة أنفه بانفعال يعتاده كثيرا ورفّت جفونه مرّتين أو ثلاث مرّات وانهمر بعد ذلك دمعه الصامت ، وما انتشله من بكائه ووقفته الذليلة أمام اللافتة إلاّ صوت انفتاح الباب
_ تفضل أستاذ ابراهيم
التفت إلى الصوت بآليّة ، احتضن اليد الصغيرة التي امتدّت إليه بحنان غامر وتمتم : آسف لم أستطع أن أتمالك نفسي
نظرت إليه اعتدال نظرة ملؤها التقدير : أدخل يا استاذ ابراهيم ..ودخل ابراهيم شكري وجلس على نفس المقعد الذي كان يجلس عليه دائما وجلست هي في نفس مكانها المعهود .. هذه الدنيا الفانية لم يغب عن المجلس إلاّ ابراهيم إحسان وقد كان يملأ لأيام خلت جوّ الغرفة بالضحك والفرفشة حتى أن اعتدال رشدي كانت دائمة القول : اللهم اكفنا شرّ هذا الضحك ..
- آسف .. لم أستطع الحضور قبل اليوم ، ذلك لأنني كنت مسافرا
- دنيا فانية يا أستاذ ابراهيم
- من كان يصدّق ؟
وبدون مقدّمات قالت : أنا
- أنت ؟؟ قالها باستنكار جعلها تقوم من مجلسها وتقف أمامه متحدّية : أجل .. أنا كنت أعلم أنّه سيموت ...ونسي رزانته الخالدة ودموعه التي كانت تنهمر كمطر شتاء ليل .. وكيف ؟ قالها بحزن عميق .. تمالكت نفسها ومالت عليه حتى كاد وجهها أن يلامس وجهه وقالت بعنف : أنظر إليّ جيدا ، تأمّلني يا استاذ ابراهيم وراقب الكلمات كيف تنطلق من بين شفاهي ، كنت أعلم أنه سيموت ..أشاح بوجهه عنها وقال في غضب لا أسمح لك .. كلّنا سنموت يوما ما فما الجديد في الأمر ؟ كاد أنفها أن يلامس أنفه الضخم قالت في ثبات : أنت لم تأت بجديد .. وقف ابراهيم شكري الآن بطوله الفارع وجثته الضخمة وكانت اعتدال تنظر إلى أعلى لترى جيّدا ما هو منطبع على وجهه قال ابراهيم : هل هناك سرّ كان يخفيه المرحوم ؟ أدارت له ظهرها وفكّر هل تخفي هذه المرأة شيئا ؟ التزمت اعتدال الصمت .. تأمّل جسمها المتناسق وفكّر: هل هذه اعتدال رشدي حقّا ؟ إذا كانت هي فإلى ماذا ترمي ؟ أكّد ابراهيم سؤاله السابق بكلمات مغايرة : إذا كان هناك سرّ يا مدام اعتدال فلماذا لا تطلعيني عليه أنت أعلم الناس بما يربطنا من قديم وإذا كان هناك سرّ لم يطلعني عليه فلن أغفر له ما حييت ..ضحكت المدام مما جعل ابراهيم شكري يقطب جبينه ..حين واجهته قالت له : أعلم ما بينكما ولكنك لا تعلم الذي بيني وبينه ثم لم يكن بينكما شيء.. عاود التقطيب هل تلغين أكثر من عشرة اعوام من معرفتنا الوثيقة ببعضنا البعض ؟؟ ما هذا الذي تقولين ؟؟ وكالقنبلة انفجرت من بين شفتيها الكلمات : هل كان يحدّثك مثلا عن مرض القلب الذي لا زمه في السنوات الأخيرة ؟ هل قال لك مثلا بأنه عرض عليّ الزواج اسميّا فقط ليقضي ما تبقّى له من أيام بين يدي امرأة وأنني أشفقت عليه وخالفت جميع الأعراف والتقاليد وخرجت على فطرتي التي فطرني الله عليها لأسعده بعد أن تأكدت أنه لن يعيش سوى أشهر معدودات ؟ هل صارحك بشيء من هذا ؟؟ ومرقت كالسهم إلى حيث حقيبة دبلوماسية كانت على طاولة زجاجية في الركن فتحتها بعصبية وتناولت تقريرا طبيّا يقول بأنه مصاب بسرطان خبيث وليس أمامه سوى أيام قليلة .. علق ابراهيم قائلا كأنني في مسرح سريالي أنا لا أكاد أفهم شيئا ..
كان صوت الرياح المزمجرة قد هدأ فجأة في حين استولى على كليهما شعور بأن كابوسا انزاح عن صدريهما .. نظر إليها بندم قائلا لم أكن أعرف أنّك تعاني قالت بمودّة : ماذا أفعل كنت أتمزّق من الداخل قال وكأنه يحدّث نفسه كنت أحسبني ذا حظوة عنده قالت بلا مبالاة كان لا يحبّ إلاّ نفسه ، كان أنانيّا مفرط الأنانية ولم أكتشف فيه ما اكتشفت إلاّ بعد أن وقعت في الفخ وبعد أن وقعت في الشرك الذي نصبه لي باسم الإنسانية وبإسم الدقائق الأخيرة
اعتدل ابراهيم شكري في جلسته وقال في خجل : هل نال منك ما أراد ؟؟ قالت بلا خجل : تعني أنه ضاجعني ؟ أجل قالها بجرأة أجابت : كان يتوسّل إليّ كثيرا ولكنّ هذا ليس من شروط الإتفاق ..مرّة واحدة فقط حين أحسست أنه ينهار تماما .. قال وقد بدأ يبتسم : وكنت تضحكين وتجاريننا في الضحك ياه كم كنت مغفّلا أحسّ بالمرارة وبالحقد على صديقه القديم .. أدار رأسه فجأة وضبط اعتدال رشدي تتأمله .. ابتسمت له وقالت بدلال : لم تخلع معطفك بعد ، أحسّ بالخجل والتردد ولكنه نهض بطريقة آليّة خلع معطفه الأسود الثقيل فتناولته منه وعلّقته على المشجب بعناية وقالت له : لا بدّ وأن تشرب فنجانا من القهوة .. لم يمانع جلس طائعا .. تابعها بنظراته .. حين تفرّس في تقاطيع جسدها فكر في أنّه لم يتزوّج بعد وأن اعتدال ليست غريبة فهي زميلة دراسة وأرملة هذا الذي كان يسمّيه الصديق الصدوق وتوأم الروح اللصيق فإذا كان يخفي عنّي أنّه مريض فبالضرورة كان يخفي عنّي أشياء أخرى كثيرة لا تعدّ ولا تحصى وربما كان يسخر منّي في سرّه فلم لا أسخر منه أنا ؟ سأفعل الذي لم يستطع فعله مع اعتدال رشدي .. وهي تغلي القهوة كانت اعتدال تفكّر كما تفكّر بعض النسوة يجب أن لا يفلت ابراهيم شكري من يدي لقد أوقعت به أوقعت بذهنه بأن صديقه الحميم لم يكن صديقه الحميم فإذا أراد بردّة فعل طبيعية أن يثأر لكرامته فليس أمامه إلاّ أن ينالني كتعويض مناسب عمّا لحق به من إهانة .. جاءت تخطر في مشيتها قدّمت له فنجانه وتناولت الآخر .. فرد ساقيه الطويلتين وأخذ مع كلّ رشفة قهوة يتخيّل أنّه يرتشف رشفة من مبسمها .. حين قام مودّعا ألبسته معطفه وعلى الباب شدّ على يدها بحرارة وقال : سأحضر غدا وهناك حديث سيطول بيننا إن أردت .. قالت له مشجّعة : أنتظرك غدا ...


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد