ذاكرة مثخنة بالجراح

mainThumb

21-02-2024 03:31 PM

-:. هل انت جاهز ؟.. أمامك عشر دقائق لصعود المنصة .
-: نعم .. نعم ، جاهز .
بدأ بتجميع أوراق المحاضرة . وقعت عيناه على ورقة:- ما هذه ؟.. الليلة المفزعة. ما هذا العنوان ؟.. ليلة جاء الفارس لأخذه الى امه .
أخذ نفساً عميقاً ، آه آه ، تذكرت .. حينها كنت أصف بنت عمي بالأخت الحنونة حتى منعتني من الذهاب الى الخلوة القرأنية مع أبنائها في حلة الحباب.
-: أنت راعي ، لقد جاء بك أبي من ديارنا حتى تعمل راعياً للغنم .
سنوات عشتها راعياً في مناطق كرن لعّلاي و شفشفيت، و دعاريت. حيث خيرات الأرض، و الهواء النقي. ناكل من قطافها ، نحفر الأرض، نرتوي من مائها العذب. و تكتحل الأعين بزخات المطر، و الأزهار نعرفها من نسائمها العليلة في وادي عنجوت ، حيث نسرح مع الماشية و الابتسامة على وجوهنا.
نعم امثالي لا يدرسون، أمثالي تمضي بهم الحياة مع الحيونات الأليفة. ننام حين تنام ، و نستيقظ معها ، في أول الفجر . ثم نمضي الساعات في جبال آيتعبر أو لالمبا صعوداً و نزولا قبل المغيب .
آه آه ، ما اجمل مرابع الطفولة . كنت انام بعد يوم شاق، و ترافقني أمي في أحلامي سعيدة حتى أستيقظ. و في كل مرة تودعني بابتسامة حتى حلت تلك الليلة فسمعتها:- أين أنت يا سالم ؟.. أريد رؤيتك قبل ان اموت .
كانت تزورني و تحدثني عن وفاتها، التي لم أكن أعتبرها إلا مجرد خيال مثل خيال الثعلب الذي يقترب الهوينا حتى يقتص فريسته في ليلة غير ممطرة. و ان أطبق الثعلب على رقبة عنزة ، لحقنا بها قبل أن تموت ، حللنها باسم الله حتى يجوز أكل لحمها .
ذات ليلة تنبه الحمار لزائر الليل، فأنطلق فزعاً الى الأمام ، فكان لقمة سائقة للذئب. هذا حال الحمير تذهب الى مقتلها بإرادتها . كنت أريد اللحاق به، لكن وجه أمي شغلني عنه ، كما شغلني الراعي خائن الأمانة ، الذي رضع من ضرع العنزة بفمه. ضربته حتى رفع صوته بالصراخ فاستيقظ القوم من النوم .
أخذوني الى عمي، الذي ضربني عقاباً لخسارة الحمار مع براءة سارق الأطفال من أحضان أمهاتهم. الذي يسرق من الطفل حياته ، أما عمي و أمثاله يسرقون من الطفل أحلى سنوات العمر . و كم من طفل في ظهره خرائط السوط لأنه يهرب الى الخلف مع الماشية. نعم يهرب ماذا عساه أن يفعل أمام ذئب اذا رأى الأطفال اشتدّت أنيابه بياضاً في سواد الليل الحالك. و اذا رأى امرأة واقفة لا تتحرك، وقف في مكانه مخاطباً نفسه "تحركي.. تحركي"، حتى يفترسها ، أما اذا رأى الرجل فيهمس:"ابتعد كفاني الله شرك". و ما أن يبتعد قضى عليه من الخلف بقبضة واحدة على الرقبة.
آه آه تلك الليلة انقبض قلبي مع رؤية الفارس على حصانه الأبيض، و هو يتحدث الى عمي . و عاد من ساعته من حيث أتى ، و العادة أن يتم استضافة الزائر بالمبيت و الطعام و الشراب. أستغربت التصرف ، لكن ما عساي أن أفعل و انا مربوط بعمود السرير .
نسيت آلامي و جراح السوط مع رؤية امي في المنام ، و هي تؤكد لي أنها ماتت لشدة المرض. وأن كل تفاصيل حياتها مرت عليها، في لحظة قصيرة جدا، من قبل موتها. ثم مضت تعلو حتى أصبحت قريبة من القمر .
كانت الأجمل حتى حل الخسوف مع صريخّ الفرسان فوق الجبال:" ماتت أم سالم رحمة الله عليها". كان صريخاً يصدح بين الجبال و الوديان حتى تتهادى بين الطرقات وفود القوم من كل مكان. يحملون معهم ما تيسر من الطعام و الشراب، و نار الدار مشتعلة يراها القاصي و الداني .
قمت فزعاً ، و افزعني أكثر وجه بنت عمي التي ناولتني ملابس نظيفة ، و طلبت مني الاستحمام.
و جاء عمي ليخبرني عن رحلة العودة الى الديار. شعرت بالخوف لماذا ؟ هل أنتهت فترة عملي ، هل سيطلب شخصاً بدلاً عني؟. . -: الله يلعن الحمار ، و الجوع الذي بجبر أقراني أن يرضعوا بأفواهم من الضرع مياشرة .
خرجنا من الدار مع تباشير الصباح، نشق الطرقات نحو جنائن دعاريت في طريقنا الى منطقة عونا.
كانت خطواتنا سريعة مثلما السائرون من حولنا ذهاباً و اياباً ، منهم من يسبقنا الى الأمام، و اخرون يلقون علينا السلام حتى توقفنا قليلاً في منطقة عنسبة - عين سبأ -، ثم مضينا الى منطقة باب جنقرين التي مشينا في أوديتها المتعرجة صعوداً و هبوطاً حتى ساعة الأصيل .
أرتحنا قليلاً في منطقة (أراس)، و التقينا اثنين من اخوالي في طريق عودتهم من حيث أتينا. كنت كثير الأسئلة و عمي يخفض عينيه ، و الإجابة الأمور طيبة. كنت أرى في وجوههم صورة أمي حزينة التي ظلت ترافقني حتى منطقة فيشو، التي أدينا فيها صلاة العشاء. و أكرمنا أهل المكان بالطعام و الحليب الطازج في قربة من جريد النخل. ثم مضينا نحو ديار عد شوم، و أتخذنا طريقاً يتفرع الى اتجاهين الأول الطريق الأمن ناحية(دنـؤ)، و المقابر، لكنه بعيد المسافة. و الثاني الطريق القصير عبر وادي (باريّ) المؤدي في احد تفرعاته الى (لامخ)، و بئر عجيل ، حيث مرابع الطفولة.
نزلنا الوادي مع الحذر الشديد من زوار الليل حتى لاحت لنا من بعيد ناراً. و النار علامة تستدل بها الركبان على المكان. -: هناك أمي ، سأرها اليس كذلك يا عمي ؟..
-: آ آه ستراها ، لقد أقتربنا (قالها و هو يرتجف).
كلما أقتربنا زادت دقات قلبي، و التعب يُطبق على أقدامي حتى أستنشقت الهواء مفعماً برائحة الذبائح ،فشعرت بحركة تسري بجسدي من أسفل الى أعلى أشبه ما تكون بنزعة الموت مع تتسارع الأحداث المفزعة، جسدي يتصبب عرقا، و أشعر به ينفصل عني، و ينتمي إلى عالم آخر. لقد فقدت القدرة على التواصل حتى أولئك الذين كانوا بجنبي، كنت أحس بوجودهم، ولكني لم أكن قادرا على الاتصال بهم حتى تناهى الى سمعي من ينعيها بلغة ليست لغة أمي :- "خديجة ولت سالم".
أسقط أرضاً ، أتحامل على نفسي، أحاول أن أصرخ، لا أسمع صوتي، أنثر التراب يميناً و يساراً حتى فقدت الوعي ، و وجدّت نفسي مربوطاً بعمود السرير .
أحاول فك الحبال و أصرخ: أين انت يا أبي ؟.. يحاولون اسكاتي و تحاول زوجة أخي التخفيف عليّ .
-: أنا خديجة .. انا موجودة معك .
-: أنت لست امي. لا تذكرين اسمها . سأذهب إليها، سأذهب الى شيكا - شيخا -، حيث ترقد بسلام .
ليلة مفزعة، لا أستطيع أن أصف ما حدث فيها ، إلا أنها كانت بمثابة تجربة موت حقيقي، كتب الله لي من بعدها عمرا إضافيا، حيث جاء الوالد من غربته في السودان. وضمني الى صدره ، فشعرت بشئ من الحنان.
-: أبي أريد أن أدرس في الخلوة مثل أقراني .
حمّلني الى شيخ القرية، حيث تعلمت القراءة و الكتابة و حفظت جزء عم. و كنت سعيداً حتى جاءت الفاجعة حين قصف الطيران الخلوة الوحيدة في قريتي. و نجوت باعجوبة. لقد أحترقت كل البيوت ، و فقدت الأرض بهاؤها. صديقي مشوّه، دمرته الحروق، و أخرون لا يعلمون أين أهاليهم و ذويهم، و شيخ الخلوة ضحى بنفسه حتى ينقذنا ، و هو يحمل شظايا المأساة في جسده النحيل المُتعب من اجل تعليم الأجيال .
جاء منْ يطرق الأبواب الباقية، يطلب أطفال القرية للتجمع في منطقة (فيشو). و من هناك أتجهت مع أقراني الى السودان. رحلة قطعناها مشياً على الأقدام في عشرة أيام تحت أمطار الطائرات، و اهتزاز الأرض تحت الأقدام ، و معها تناثرت دفاتر أحلامنا التي طواها النسيان من أجل سنوات قضيناها في الدراسة و الترحال . حيث تمضي سنوات و سنوات ، و قلوبنا مُعلقة بديار متجذرة فينا ، و أبناؤنا غرباء فيها أجيال و أجيال .
-:. جاء دورك .. تفضل ..
-: حسناً .. حسناً ..
مزق الورقة، و هو يتمتم.." أمثالي لا يحتاجون الى ورقة مكتوبة لأن الذاكرة مثخنة بالجراح ". و اتجه الى المنصة مع تصفبق الجمهور ترحيباً به مع اعلان اسمه:" البرفسور د. سالم ، مؤلف كتاب الطفولة المبكرة".
وقف أمام الحاضرين و القى التحية ، و تحدث عن الطفولة و خاتمتها:" ما أن يُفطم الطفل حتى يرسل بعيداً عن داره . و قليل من يظل مع أهله، و يذهب الى الخلوة القرأنية. هؤلاء حياتهم الرعي و الزراعة، فإذا أشتّد عود احدهم أصبح مقاتلاً مدى الحياة. لذلك يعبرون المنافي و البحار من أجل أن يعيش أطفالهم حياتهم الطبيعية .
ضجت القاعة بالتصفيق ، و هو يحتضن ابنته خديجة ذات العشر سنوات:- أبي .. كم انت عظيم ، شكراً لك . أبتسم في وجهها ، و هم يتمتم:" شكراً بنت عمي، لقد كنت الملهمة ".




* قصة قصيرة بعنوان ذاكرة مثخنة بالجراح . مستوحاة / متخيلة من واقع الحياة في منطقة الهضبة الوسطى في دولة اريتريا. و الصورة المرفقة من ريف مدينة كرن.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد