زينة وعز: على هامش المجزرة تبدأ الحكاية
في صباحٍ باهتٍ من صباحات غزة، تلك التي لا يُفرّق فيها المرء بين نهار وركام، كانت الطفلة زينة تدور بدراجتها الصغيرة في فناء بيتها، ويدها تلامس الريح التي مرّت، للمرة الأخيرة، فوق جدران لم تكن تعلم أنها في طريقها للغياب. كان أخوها عز، طفل في الخامسة من عمره، يركض بخفة نحو البيت بعدما أنهى وضوءه، حافي القدمين إلا من دفء الأم التي تنتظره على العتبة بكوب ماء وبعض الحنان.
لا شيء في وجهيهما يومها يوحي بأن الحياة ستتوقف بعد لحظات. لا خوف، لا بكاء، لا وداع. فالصواريخ لا تعلن عن نفسها، ولا تنتظر اكتمال القصص.
انفجر البيت. لا أحد يدري من أين جاء الصوت. كل ما بقي منهما، من تلك اللحظة، هو ذكرى مشوشة!
تخرج زينة من تحت الأنقاض كمن يولد من جديد، لكن هذه المرة ليس من رحم حي، بل من تراب ساخن ونار. وجهها الصغير كان مغموراً بالدماء، شعرها يتساقط، ثوبها ملتصق بجراحها، وصوتها… غائب… غائب. أما عز، فقد كان مختبئاً خلف جدار الحمّام. الحائط حماه من الانفجار، لكن لم يحمه مما رآه بعدها.
والدهما؟ لم تبقَ منه سوى أشلاء، بقايا جمجمة، وخيط من الدم ظلّ عالقاً على الحائط كصدى بعيد لوجودٍ كان أباً.
أمهما؟ طارت من مكانها، وارتطم جسدها بجدار الجيران، وفارقت الحياة بسرعة… كأنها كانت مستعدة للموت.
بعد أيام، وسط الركام، ووسط شهقات الحارات التي تنعى أبناءها، لم يبق لهما إلا الجدّ. رجلٌ عجوز، انحنى ظهره منذ سنوات، لا على كتف الزمن، بل على غصّة الفقد. لم يكن يعدّ نفسه من الأحياء، حتى حمل الحكاية على كتفيه: زينة وعز، حفيداه، وما تبقّى من اسم العائلة. لم يكن المشي سهلاً… لم يكن الهرب ممكناً… لكن النزوح صار فرضاً، ووجد الجدّ نفسه يحمل عز بيد، ويجرّ زينة بيد.
رحلة التيه
بدأت رحلة التيه. لم يكن هناك متسعٌ للحزن، فالرصاص لا يمهل القلوب، ولا يعطيها وقتاً لتدفن مشاعرها. كان من أصعب اللحظات على الجدّ، تلك الأسئلة البريئة التي تأتي كخناجر:
«أين بابا؟»
«ليش أنا ما عندي ماما مثل صديقتي؟»
«هاي كنزة بابا… ريحتها ما راحت…»
«ليش حذاء ماما مرمي هون؟ ما كانت تحبه؟»
كل سؤال كان يضيف سنة إلى ظهر الجدّ.
كل كلمة كانت تعيده إلى لحظة الانفجار، حيث لم يستطع أن ينقذ سوى رماد.
زينة، ذات السبع سنوات، لم تعد تلعب. صارت صامتة، تضع يدها على خدها، وتحكّ جلدها المحترق كمن يفتش عن نفسه تحت جلده. رسمت ذات يوم بيتاً على ورقة، لكنه كان مائلاً، بلا أبواب.
قالت للجد: ما بدي باب. ما بدي حدا يفوت ويفجرنا تاني. أما عز، فكان يتلعثم كلما حاول أن يقول كلمة «بابا»… كأنه شعر أن الحرف ثقيل، وربما محرَّم.
كان أحياناً يضع لعبة صغيرة على السرير، ويقول إنها لأخيه، رغم أنه لم يكن له أخ… ربما، اخترع له شقيقاً مات أيضاً… ليقنع نفسه أن الموت ليس انتقائياً.
تمضي الأيام على مهل حاملة على ظهرها ثقل الفقد… والطفلان يكبران بسرعة، لا من حيث الطول، إنما من قوة الغصّة. صار الجدّ يجلس وحيداً في الليل، يبكي بصمت. ليس لأن التعب هدّه، بل لأنه شعر بالعجز أمام سؤال زينة الأخير:
يعني لما أكبر، كمان رح يقصفوني؟
لم يكن لديه جواب. فهو رجل من زمنٍ مرت فيه الحروب بكل فصولها القصيرة والطويلة، حروب مسحت أثر عائلات كاملة وطردت الحياة مراراً وتكراراً من القطاع… لتعود إليه بصلابة الأهالي وإيمانهم.
هو لا يعرف كيف يعلّمها الحياة في مدينة صارت كلها موتاً.
في كل صباح، كانت زينة تمشي إلى نقطة توزيع الخبز، تسحب عز خلفها، ويجلسان هناك بين طوابير العائلات المفجوعة، وكل واحدة تحمل اسم مذبحة ما.
زينة لا تأكل كثيراً. تقول إن بطنها لا يتّسع للخبز والحزن معاً. أما عز، فما عاد يحلم أبداً.
هو يصرخ ليلاً، ويبكي إذا أُطفئ الضوء.
قال للجدّ ذات مساء: أنا خايف، صوت الصاروخ صار جوّا راسي!
الكل في غزة يعلم أن الحروب لا تقتل فقط بالأجساد، بل تحفر في العقول فجوات لا تُردم.
هذه ليست حكاية خاصة… هذه حكاية زينة… وعز… ومئات غيرهم.
في غزة، لا تنتهي المأساة عند الموت، بل تبدأ من بعده.
تبدأ حين يُطلب من الطفلة أن تصير امرأة، وهي لم تلبس بعد فستان العيد.
ويُطلب من الطفل أن يصير رجلاً، وهو لم يحفظ بعد جملة كاملة بلا بكاء.
كل ما أراده الجدّ هو أن يمنحهما وقتاً يكفي ليشفيا، لكن الزمن نفسه صار قاسياً.
وفي ليلٍ آخر من ليالي التشريد، جلس الجدّ يروي لهما حكاية من الزمن الجميل، لكنه نسي النهاية. نظرت زينة إليه، ثم قالت بهدوء: مش مهم… وبدأت بالبكاء.
وهكذا، بدأت رحلة الطفلين مع اليُتم، ليس كصفة، بل كهوية. كواقعٍ كُتب عليهما أن يعيشاه كل يوم، حتى دون أن يتذكّرا شكل أمّهما أو صوت أبيهما. زينة التي احترق قلبها وعز الذي ضاع في سؤاله الأول: ليش ما عندي بابا؟
وفي وطنٍ مثقوب بالوجع، بقي الجدّ وحده، شاهداً على جيلٍ ينمو من بين الرماد، يحاول أن يعلّمهما كيف يُحبّان الحياة… حتى لو كانت الحياة ترفاً محرماً.
كاتبة لبنانية
71 شهيداً في قطاع غزة منذ الفجر
فعاليات صيف الأردن تتواصل في عمان والمحافظات
القضاة يوضح أهمية الرسوم الجمركية الأميركية الإضافية للأردن
نشميات تحت 16 يحصدن برونزية غرب آسيا
حماس ترد على اتهامات ترامب الباطلة
حمزة الدردور يحسمها للرمثا أمام الوحدات
ارتفاع الرقم القياسي العام لأسعار أسهم بورصة عمان
نارين بيوتي تتحدث عن فارق العمر مع زوجها
السعايدة: مصفاة البترول تشكل ركيزة أساسية بمنظومة الطاقة
جلسة "HydroGlow" أحدث بروتوكول لعناية البشرة العميقة
تحويل محطة ترخيص لواء الكورة إلى محطة مسائية
بند غير مألوف في عقد ميسي الجديد مع ميامي
مهم للأردنيين المتقاعدين مبكراً والراغبين بالعودة الى العمل
إنهاء خدمات 39 موظفاً للتقاعد المبكر .. أسماء
فصل مبرمج للتيار الكهربائي عن هذه المناطق .. أسماء
مئات المدعوين للامتحان التنافسي .. أسماء
حدائق الحسين تمنع الأراجيل وتبدأ تفتيش المركبات
كم بلغ سعر كيلو الدجاج في الأردن .. تفاصيل
السفارة الأردنية تحذر الأردنيين المقيمين في ولايات أميركية
التربية تحدد موعد إعلان نتائج التوجيهي 2025
البلقاء التطبيقية تخرج طلبة كلية إربد .. صور
نظام جديد يضبط تطبيقات النقل الذكية في الأردن قريبًا .. تفاصيل
موجة حر تضرب المملكة ودرجات الحرارة تتجاوز 47 مئوية في الأغوار
التربية تعلن أسماء 348 مرشحًا لقروض إسكان المعلمين
مهم بشأن تصنيف طلبة التوجيهي لغايات التقديم للجامعات الرسمية