من سانتياغو إلى غزة
في ليل استثنائي حمل الخريف فيه أنفاس المجد، امتلأت شوارع المغرب بأهازيج الفرح، وارتجّت الأرواح بصوت واحد: نحن الأبطال! لم يتعامل المغاربة مع هذا الفوز على أنه مجرد مباراة إنما منحوه معنى الانبعاث. كتبوا تاريخهم بأقدام أبنائهم، ودموع أهلهم، وصيحات الملايين التي علت من الدار البيضاء، وفاس، والرباط، وطنجة، إلى كل بيت عربي رأى في «أشبال الأطلس» صورة حلم ظل مؤجلًا طويلًا، وها هو يتحقق فوق أرض تشيلي.
على ملعب خوليو مارتينيس برادانوس في سانتياغو، حضر أكثر من أربعين ألف متفرج ليشهدوا لحظة لا تشبه أي لحظة أخرى. لبس المنتخب المغربي المجد كما يلبس المقاتل درعه الأخير. رفع اللاعبون رؤوسهم، وتقدموا بخطى ثابتة، وانتصروا على الأرجنتين… حفروا اسم المغرب على صفحات التاريخ كأول بلد عربي وثاني بلد أفريقي يتوّج بكأس العالم للشباب.
عندما حمل عثمان معمر جائزة أفضل لاعب في البطولة، وزع ابتسامته على كل من آمن أن العرق لا يضيع، وأن الشغف يولّد الانتصار. هكذا لامس قلوب الجماهير.
أما ياسر الزايري، الذي سكن القلوب قبل أن يسكن القوائم والإحصاءات، فقد استحق جائزة ثاني أفضل لاعب، وتألق بين هدافي البطولة. لم يركض خلف الكرة وحده، إنما ركض خلف ذاكرة أحياء كاملة، وركض نحو نداء أم انتظرت هذه اللحظة، ونحو وطن يحتاج نصراً يعيد إليه يقينه.
ما إن أطلق الحكم الصافرة الأخيرة، حتى امتلأت المدن المغربية بأغان تمشي على قدمين. لم ينتظر الناس شروق الشمس، وانطلقوا إلى الشوارع فجراً. رفعوا الرايات، ورددوا الأهازيج. أعلنوا أن الفرح حق، وأن المغربي حين يمنح مساحة، يصنع المعجزة. عانقت المدن دموع الفرح، ورددت كل زاوية صوتاً واحداً: «حنا الأبطال».
شاركت وسائل التواصل في الاحتفال كأنها جزء من الفريق. نشر الناس الصور، سجلوا المقاطع، ورددوا أسماء اللاعبين. لم يجلس أحد في مقعد المتفرّج. الجميع شارك واحتفى وكتب شعوره… كل من رفع هاتفه لتوثيق لحظة، شعر أنه ساهم في رفع الكأس.
في ذروة الاحتفاء، وجّه ملك المغرب محمد السادس كلماته إلى اللاعبين والشعب، فقال: «شرّفتم بلدكم وشبابه أيما تشريف، ومثلتموه وقارتنا الأفريقية خير تمثيل..».
رفع بذلك رؤوس اللاعبين، وزاد من ثقل الإنجاز، وجعل كل فرد يشعر أن الوطن أنصت له واحتفى ببطولته.
لحظة التتويج حملت معنى المصالحة بين الحلم والواقع. لم يتردد الناس في التعبير عن فخرهم، وأطلقوا الزغاريد، وصفّقوا، وغنّوا من قلوبهم. رأى الناس في وجوه اللاعبين صور إخوتهم، وأحلام طفولتهم، وذكريات ليال لم تعرف الفرح.
أثبت أشبال الأطلس أن الشوارع المغربية لا تنجب إلا الفرسان.
أصر الشعب على الاحتفال، وخرج من كل بيت، وكل زقاق، وكل حي. جلس الأطفال على أكتاف آبائهم، وهتف المراهقون حتى بحّت أصواتهم، ورفعت الجدات أكفهن للسماء. رقص الناس وغنوا بلحن واحد، كأن الوطن صار أغنية. حمل كل تفصيل توقيع الحب والانتماء.
أظهر المغرب للعالم أن البطولة لا تحتاج معجزة. صاغ اللاعبون قدرهم بأقدامهم وعرقهم. تصدّى الحارس للكرة الأخيرة كما يتصدى المقاتل للخذلان. لم يطلبوا الصدفة، ولم يكتفوا بالحلم، إنما صنعوا الحلم، ورسموه بلون العلم، وعلّقوه في رقاب العالم.
انتقل صوت المغرب من سانتياغو إلى كل بيت عربي. شعر السوري أن الفوز يخصّه، وابتسم الفلسطيني من قلب الألم، وهتف المصري معهم، وافتخرت الجزائر بأشقائها. امتدت الفرحة كجسر نور، وتحوّل الإنجاز من لحظة مغربية إلى لحظة عربية.
غدا المغرب أكثر من بلد. صار رمزاً لما يمكن أن يتحقق حين تتوفر الإرادة، ويفتح الباب أمام الطموح. وقفت الجماهير خلف المنتخب، واحتضنته المدارس والميادين، ودعمه المدربون والمشجعون والبيوت الطيبة.
البطيخ الذي صار راية
في زاوية الملعب، عند خط البداية، كانت الأحذية تصطفّ كأزهار منضبطة. كل حذاء يحمل بصمة روح قررت ألا تصمت.
ألوان من الأحمر والأخضر والأسود والأبيض تجتمع في شكل دائرة صغيرة تلتصق بحافة الجلد الإسباني المصقول. لم يكن ملصقاً عابراً، إنما حكاية كاملة.. وقفت اللاعبات الإسبانيات، وجباههن تلمع من عرق الجهد وشغف اللعب، كأنهن جئن من ملعب أكبر من المستطيل الأخضر. جئن من ضمائر قررت أن تقول لا!
في ذلك المساء، لم تعد الرياضة مجرد منافسة. صارت موقفاً أخلاقياً من حرب لا تفهم سوى الصمت المميت.
كتبت باولا أركوس: «لا أستطيع أن أتجاهل ما يحدث خارج الملعب. أجد أنه من المستحيل فصل المنافسة عن الواقع الذي يؤثر على حياة الأبرياء كل يوم. تضامني مع الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لإبادة جماعية دمرت حياة الآلاف وتركت منازلهم في خراب»!
كان العالم في تلك اللحظة يشاهد مباراة، بينما كانت هي تمارس فعلًا من أنبل أفعال الإنسانية: أن تتذكر وجع الآخرين وأنت في قلب الضوء.
أن تختار أن تكون إنسانًا قبل أن تكون بطلا. رمز البطيخ لم يولد من عبث.
منذ أن حظر رفع العلم الفلسطيني في الأراضي المحتلة، لجأ الناس إلى هذا الرمز الطفولي البريء، يحمل ذات الألوان الأربعة: الأحمر دم الأرض، الأخضر زهرها وزيتونها، الأسود جرحها، والأبيض حلمها بالسلام.
صار البطيخ علماً بديلًا، وابتسامة مقاومة ترفع في وجه المنع.
واليوم، حين يظهر على حذاء لاعبة إسبانية، يتحول إلى جسر بين قارتين، بين ملعب مضاء ومخيم تحت القصف.
في كل مرة تلمس فيها تلك الأقدام العشب، يتردد صدى بعيدا من غزة، من بيت تهدّم ومن أم فقدت طفلها.. العشب الأخضر يصبح رمزًا للحياة، والكرة التي تدور فوقه كأنها الأرض التي ما زالت تبحث عن توازنها وسط الجنون.
ربما لم تدرك اللاعبات أن تلك اللصقة الصغيرة ستتحول إلى أيقونة.
ربما ظنن أنها مجرد لفتة تضامن.
لكن التاريخ يحب التفاصيل الصغيرة، ويكتب ملاحمه من ومضات كهذه.
فالصورة التي التقطت لأقدامهن ستعيش أكثر من مباريات كثيرة ستنسى.
ستبقى كوثيقة ناصعة على زمن انقسم فيه الناس بين من يرفعون شعاراً وبين من يرفعون قلوبهم.
وفي خلفية الصورة، يمكن أن تسمع همس الأطفال في غزة وهم يرسمون على دفاترهم ثمرة بطيخ تخرج منها طيور.
هناك من يفهم أن الفن والرياضة لا يفصلان عن الوجدان.
إن اللعب الحقيقي ليس بالكرة، إنما بالكرامة.
في تلك الليلة، بدا أن الإنسانية استعادت وجهها لبعض الوقت.
أن العالم الذي غرق في الأخبار القاتمة وجد فجأة نافذة هواء نقي.
أن قطعة بطيخ صغيرة استطاعت أن تهزّ جدار الصمت الأوروبي، وأن تذكر بأن الضمير لا يحتاج إلى منابر سياسية كي يتكلم، يكفيه حذاء عليه ملصق صغير.
كانت باولا ورفيقاتها يسجلن هدفاً في مرمى اللامبالاة. هدفاً لا يحتسب في النقاط، لكنه يحتسب في التاريخ.
ولأن الرموز لا تموت، صار البطيخ نشيداً عالمياً جديداً، يرفرف على صفحات التواصل الاجتماعي، يضيء في يد طفل، وفي رسمة فنان، وفي تصريح لاعبة وجدت شجاعتها في عرق اللعب.
تلك كانت اللحظة التي انتصرت فيها الرياضة للإنسان.
حين صار الملعب وطناً مؤقتاً، وحين التقت إنسانية لاعبات من إسبانيا بدماء أطفال من غزة.
وحين فهمنا جميعاً أن التضامن لا يحتاج إلى ضجيج، بل إلى صدق يخرج من قلب يعرف أن الإنسان أغلى من كل الألقاب.
*كاتبة لبنانية
دوري الأبطال .. ريال مدريد يفوز بصعوبة على يوفنتوس
بعد وفاته المفاجئة .. من هو نصير العمري
ترامب يلغي الاجتماع مع بوتين: لم أشعر بالراحة
تجدد المواجهات العنيفة في دبلن لليوم الثاني
مبادرات مجتمعية وتربوية في عدة محافظات
جيل زد يحتج في تونس .. وقيس سعيد يردّ بجرير والفرزدق
ما فعله شبان المغرب كروياً ليس معجزة
هذا ما سيحدث بقطاع السيارات بعد 1-11-2025
محادثات أردنية - فلسطينية بشأن غزة
انخفاض مؤشرات الأسهم الأميركية
الأردنية: فصل نهائي بانتظار طلبة شاركوا في المشاجرة الجامعية
إغلاق طريق كتم وتحويل السير إلى الطريق الرئيسي (إربد – عمّان)
إحالة موظف في أمانة عمان للمدعي العام .. تفاصيل
انخفاض أسعار الذهب في السوق المحلية
أسعار الذهب محليا تسجل قفزة جديدة
فتح باب التجنيد في الأمن العام .. تفاصيل
إطلاق حزب مبادرة رسميًا لتعزيز العمل الحزبي وتمكين الشباب
اتحاد المزارعين يعلن الحد الأعلى لسعر تنكة الزيت
قفزة جديدة في أسعار الذهب محلياً
عطية يطالب الحكومة بإعادة العمل بالتوقيت الشتوي
تحرك برلماني يطالب السعودية بإعادة النظر في قرار الحافلات
طاقة الأعيان تثمن دور البوتاس في دعم رؤية التحديث الاقتصادي
تشكيلات إداريّة محدودة في الجامعةِ الأردنيّة