ما بين التّسليم والرّفض المُتعلِّق

ما بين التّسليم والرّفض المُتعلِّق

26-11-2025 12:55 AM

حين يستسلم العقل... ولكن تتمرّد المشاعر
في مسرح حياتنا، كثيرًا ما يُسدل العقل الستار مُعلنًا تسليمه بالحدث؛ يقبل بما كان، أو يستسلم لما سيكون، في محاولة شجاعة للمضي قدمًا. لكن خلف هذا الستار، في الزوايا الخفية للقلب، تستمر مشاعرنا في التعلق بذات المشهد، رافضة أن تترك الأوضاع كما هي. هذه هي المعاناة الإنسانية الخالدة: التسليم الظاهري الذي لا يعبر عن سلام داخلي، بل يخفي تحته رفضًا عاطفيًا متأصلًا.
نحاول أن نقتنع بأن "كل شيء يحدث لسبب"، أو أن "ما جرى كان لا بد أن يجري"، فيخدر العقلُ الجرحَ بلُغُوط المنطق والقبول. لكن في صمت الليل، تثور الذاكرة العاطفية، وتنهض الأسئلة التي لم تُجب: لماذا؟ وماذا لو؟ وكيف كان يمكن أن يكون الأمر مختلفًا؟ قد نصنع السلام مع الوقائع بعقولنا الواعية، لكن عقولنا الباطنة تحتفظ بشرارة الرفض، وتظل مشاعرنا متعلقة بصورة لم نعد نملكها، أو بأمل لم يعد يملكنا.
ها هنا، لا نتحدث عن رفض منطقي أو تسليم جبان، بل عن تلك الفجوة العميقة بين ما نعرفه وما نشعر به. نتأمل في طبيعتنا البشرية التي لا تنسى، لكنها تتأقلم؛ التي تتألم، لكنها تتعلم العيش مع الألم. كيف نتعامل مع هذا التناقض الحميم بين عقل استسلم وقلب ما زال يرفض؟ وكيف يمكن لفهم هذه الآلية المعقدة - حيث يحكم العقل اللاواعي خيوط مشاعرنا من وراء حجاب - أن يكون مفتاحًا لمصالحة حقيقية مع ذواتنا ومع تقلبات الحياة؟
في صميم هذه المعضلة يكمن تناقضنا الإنساني الأصيل: نحن كائنات عاقلة تحاول فرض النظام على الفوضى عبر "التسليم المنطقي" للواقع، لكننا في ذات الوقت كائنات شاعرية تحمل في أعماقها "رفضًا عاطفيًا" يصعب ترويضه. هذه ليست معركة بين الصواب والخطأ، بل هي فجوة بين معرفة عقلانية واقتناع وجداني. عقولنا تدفعنا للرضا كآلية بقاء، بينما قلوبنا ترفض كشهادة على الأهمية التي منحناها لتلك التجربة. وغالبًا ما يكون العقل الباطن هو ساحة هذه المعركة الخفية، حيث تخزن المشاعر المكبوتة والذكريات المؤلمة التي لم تحظ بالتفريغ أو التفهم، فتبقى كجمر تحت الرماد، تثور كلما وجدت شيئًا يذكرها بالألم الأول.
وإذا اتسعت دائرة النظر، نجد أن هذا الصراع الحميم بين التسليم والرفض ليس مجرد ظاهرة فردية، بل هو انعكاس لعلاقتنا الجمعية مع الأنظمة الكبرى من حولنا. فكثيرًا ما نجد أنفسنا نعيش في حالة من "التسليم المشروط" للمعتقدات السائدة والأنظمة الاجتماعية والسياسية؛ نقبل بها ظاهريًا كي نتمكن من العيش ضمن نطاقها، لكننا في أعماقنا نحتفظ بشرارة من الشك أو الرفض. هذه الشرارة قد لا تطفو على السطح كل يوم، لكنها تظل كامنة كطاقة كامنة، تنتظر اللحظة المناسبة لتتفجر إما إبداعًا يحاول التغيير، أو احتجاجًا صامتًا يرفض الاستمرار في التمثيلية. وهكذا، يصبح الصراع الشخصي نموذجًا مصغرًا للصراع الثقافي الأوسع بين الرغبة في الانتماء من ناحية، والحاجة إلى الحفاظ على الاستقلالية الفكرية والنزاهة العاطفية من ناحية أخرى.
هذا الصراع الخفي ينتج ما يمكن تسميته "اللاوعي الجمعي" للمجتمع - ذلك المسكوت عنه من انتقادات وإحباطات وأحلام مغايرة الذي لا يختفي، بل يتراكم تحت سطح الحياة اليومية. قد يظل كامنًا لسنوات، لكنه عندما يجد قناة للتعبير - عبر حركات اجتماعية، أو تحولات ثقافية، أو حتى أشكال فنية مبتكرة - يثبت أن "التسليم" الظاهري كان مجرد جبل جليد، وأن هذا "الرفض المتعلق" كان يختمر تحت السطح، منتظرًا لحظته التاريخية كي يعلن عن نفسه ويصبح قوة دافعة للتغيير.
في النهاية، ربما لا يكون الهدف هو "كسب" هذه المعركة بين التسليم والرفض، بل فهمها كجزء من رحلتنا الإنسانية. أن نعترف بأن مشاعرنا المعلقة ليست ضعفًا، بل دليلًا على قدرتنا على الاهتمام والحب. الغاية ليست محو الألم، بل تحويل علاقتنا معه. عندما ندرك أن هذا التوتر ليس عيبًا فينا، بل هو نسيج من طبيعتنا المركبة، نبدأ في منح أنفسنا رحمة القبول المزدوج: قبول قرار العقل بالاستسلام، وقبول حق القلب في التعلق. وهناك، في تلك المساحة من التفهم الذاتي، نجد هدنة حقيقية تسمح لنا بأن نحيا برغم الماضي، لا بسببه.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد