جنوب اليمن: مظالم محلية وأجندات إقليمية

جنوب اليمن: مظالم محلية وأجندات إقليمية

21-12-2025 01:31 PM

قد لا يكون من قبيل التسخير القسري لدروس التاريخ أن يستدعي المرء إلى ذاكرة اليمن الراهن، بصدد ملفّ الجنوب تحديداً، حرب صيف 1994 التي انتهت إلى انتصار قوات الرئيس القتيل علي عبد الله صالح، وإعادة فرض العمل باتفاقية 1990 التي وحدت شمال اليمن وجنوبه. صحيح، لا ريب، أنّ طبيعة القوى الراهنة، وميزان المعادلات بين الحوثي والمجلس الانتقالي الجنوبي، ليست متشابهة ولا هي كفيلة بإفراز خلاصات سياسية وعسكرية ميدانية مماثلة، حتى على صعيد ما يتنافر أو يتطابق بين نهج الإمارات والسعودية حول عمليات «الانتقالي» العسكرية في عدن والمهرة ومناطق أخرى واسعة في حضرموت. الأمر الذي لا يلغي عناصر أخرى هامة، بينها الأهمّ أغلب الظنّ: استغلال مظالم أهل الجنوب للدفع باتجاه الانفصال، تحت عَلَم الجنوب التاريخي الذي جرى رفعه بدل علم البلاد الرسمي.
في عبارة أخرى، وبصرف النظر عن أجندات «الانتقالي» المحلية أو الإقليمية التي لا تخفى، ونادراً ما يكترث أمثال عيدروس الزبيدي بإخفائها أصلاً؛ ثمة نار ظلت تستعر تحت الرماد، لأسباب تاريخية تخصّ الحاجة إلى مزيد من الوقت والتعايش الحرّ بين أبناء الشعبين في الشمال والجنوب، وضمن جدل افتقارهما معاً إلى ديمومة استقرار نسبية.
مناطق جنوب وشرق اليمن لم تعرف نظاماً سياسياً واحداً إلا في عام 1967، حين تمّ بالقوّة إدماج 21 سلطنة وولاية وإمارة في دولة واحدة تحت تسمية جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، ولكن التناحر السياسي ظلّ ديدن البلاد، سواء في عهد الحزب الاشتراكي أو خلال سنوات الوحدة قبيل اندلاع الحرب الأهلية. وحال الشمال لم تكن مختلفة، إذْ أنّ الولاءات القبلية بقيت أكثر هيمنة، يؤطرها أيضاً الخلاف المذهبي بين السنّة الشافعية والشيعة الزيدية، والذي لم تكن مصادفة أنه بلغ ذروته في صعود الحوثيين ابتداء من منطقة صعدة، شمال غرب البلاد.
وعبر تحرك عسكري، وانفصالي في كثير من عناصره، يستغلّ «الانتقالي» مشهداً اجتماعياً وسياسياً وإنسانياً معقداً في جنوب اليمن، ينتظم منذ عقود حول احتمالين، لا يتطابق أي منهما مع معطيات السطح الظاهر لوحدة اليمن، أو الحكومة الانتقالية (التي فرّت، دون إبطاء، إلى الرياض!)، أو حتى اتحاد مناطق الجنوب ذاتها. الاحتمال الأول أن يسير المشهد إلى انتفاضة شعبية ذات مضامين مطلبية ومعيشية وحقوقية ملموسة، جوهرها العريض هو ردّ سلسلة المظالم التي تعرّضت لها شرائح محددة من أبناء الجنوب، بعد فشل تجربة الانفصال وانتصار الشمال عسكرياً سنة 1994.
الاحتمال الثاني أن تتطوّر إلى «ثورة برتقالية»، كما يذهب بعض المعلّقين اليمنيين، تُدرج هذه المظالم ضمن مشروع سياسي معارض عريض، يسنده حراك يوميّ مشتعل في الشارع الشعبي، أشبه بقنبلة موقوتة صُنعت مادّتها الناسفة من خليط شديد الانفجار: معاناة الظلم والإهمال والتمييز في جهة أهل الجنوب، والتمرّغ في الفساد والنهب والتسلّط في جهة أهل السلطة.
ولأنّ «الانتقالي» ليس الجهة المرشحة لقيادة الاحتمال الثاني، فلا هو راغب به، ولا مساندوه في أبو ظبي يشجعون عليه أساساً؛ فإنّ الاحتمال الأوّل يوضع اليوم أمام اختبار تصنيع ائتلاف بين المظالم والأجندات الإقليمية، ليست عواقبه الوخيمة مستبعدة أو قليلة البلوى، ولكنّ اعتماده والمضيّ في تطبيقه أخذ ينتقل تدريجياً من المغامرة التكتيكية إلى المجازفة الستراتيجية.
يبقى الرجاء بألا تتطوّر مظاهر السخط في محافظات الجنوب إلى ما يقترب كثيراً من تكوين نعرات مناطقية تنتهي إلى تعاظم الحسّ بالحاجة، معيشياً وإنسانياً قبل الرغائب السياسية، إلى الانفصال مجدداً. ذلك لأنّ عواقب الوقائع اليومية المتفجّرة قد تنذر بما هو أدهى من مجرّد اللعب على تناغم مزعوم بين المظالم المحلية والأجندات الإقليمية.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد