هروب الفتيات قد يشوش على سوية التغيير في السعودية - عمر علي البدوي

mainThumb

27-01-2019 03:25 PM

 لم يكن أحد من السعوديين، وغيرهم، مقتنعا بنزاهة موقف الحكومة الكندية في قصة هروب الفتاة السعودية رهف من عائلتها عبر الكويت وتايلاند ومن ثم اللجوء إلى كندا.

 
إذ سرعان ما تكشفت الكثير من القضايا العالقة التي تشبه رهف وربما أكثر إلحاحا ولم تجد الاستجابة نفسها، من ذلك قصة الفتاة اليمنية ندا علي التي تعذر عليها وأختها الحصول على حق اللجوء في الأراضي الكندية، رغم مرور عامين على وصولها هناك ولم تعرف من عطف الحكومة ولا سعة قوانينها إلا مداهمات الشرطة وزنازين الهجرة غير الشرعية.
 
حاولت ندا استثمار ما بدا أنه اهتمام حقيقي من السلطات الكندية لرعاية الفتيات المضطهدات، ولكن صوتها ذهب سدى لأن قصتها تقليدية تماما بالنسبة لكندا، ولا تسمن أو تغني في شيء.
 
الأجواء المشحونة التي تخيم في فضاء العلاقات السعودية الكندية، وسياق الهجمة الشرسة وغير المبررة ضد كل ما هو سعودي، جعلا النظر إلى طريقة تعامل كندا مع ملف الفتاة الهاربة محل شك وارتياب.
 
بالغت وزيرة الخارجية الكندية، وهي جزء أصيل من عملية الشحن السياسي المهووس ضد السعودية، في ردة فعلها أثناء استقبال الفتاة لدى وصولها إلى المطار، وحاولت استثمار الحشد الإعلامي للقضية للإيحاء بسوداوية الوضع الذي تقاسيه المرأة في السعودية.
 
بغض النظر عن التفاصيل الدقيقة التي تشكل بمجموعها الدوافع التي حركت رهف ونظيراتها من الهاربات وطالبات اللجوء خارج البلاد، والنتائج التي ستنتهي إليها تجربة كل واحدة منهن، كان المجتمع، حسب ما تشير إليه مواقع التواصل الاجتماعي بوصفها توفر أفضل فرصة لقراءة المزاج الاجتماعي في السعودية، أقل وطأة في اتهام الفتاة، إذ كان ينظر إليها بكثير من الرحمة عطفا على سنها الصغير وعلى ما قد ينتظرها من مفاجآت قد لا تكون سارّة كما تتوقع.
 
لن يحدث مثل هذا لو كانت القصة في الزمن الغابر، إذ كانت تتحمل فيه الفتاة كل أعباء العيوب والنقائص، وكان المجتمع وقتئذ يكنس كبرياءه الطهوري عبر نسب الأخطاء إلى الحلقة الأضعف في المجتمع، بما يفاقم القضية ولا يخدم جهود تفكيكها وحلها.
 
تغير المجتمع اليوم، تفتقت الحداثات التي تداخل معها عن وعي ثقافي واجتماعي مختلف، أقل توترا بعد أن انقشعت غمامة الأيديولوجيا الماضوية التي كانت تشتت انتباهه، وفي المقابل لم يكن مرتاحا تماما إلى نوع الدعوات التي تذهب بالظاهرة إلى درجة التسييس واتهام الواقع بالسوء الحاد الذي لا ينفع معه إصلاح أو علاج.
 
السعودية مقبلة على مرحلة جديدة ومختلفة. نهضة شجاعة تطوي الظروف غير السوية التي كانت تكابدها بعض فئات المجتمع. إصلاحات تبدأ بسنّ القوانين النوعية إلى تجديد الخطابات الفاعلة في المجتمع والمساواة التي بدأت ملامحها تبرز على مقاعد القيادة والتأثير، كل هذا يغذي الأجواء المشجعة التي تشع من السعودية.
 
لن يحدث التغيير فجأة، ينبغي أن ينضج بهدوء، حتى لا يختل نظام المجتمع ولا تعمّه الفوضى أو الارتباك في هضم التغييرات العميقة التي تحدث له.
 
الإفرازات الهامشية، التي تطلّ بين وقت وآخر، قد تحدث بعض الجلبة، لكن لا ينبغي أن تحرف مسيرة التجديد عن مضمارها ومسارها الموشوم على جبين صحراء أجدبها الانتظار وأقفرها التمهل والتردد.
 
ثمة ما يشبه تنظيما نسويا، قد لا يكون قائما بنحو هيكلي لكنه ملموس كآلية تفكير وخطاب، يعالج القضايا بشكل سطحي، ويروّج للخروج على طبيعة المجتمع بشكل سافر لا يراعي شروط التغيير الموضوعية التي تهبه النضج والمسؤولية.
 
مثل كل المجتمعات، هناك قصص شاذة تنتج عن ظروف غير طبيعية، والمجتمع المسؤول يواجه مشكلاته ويسعى لحلها بشجاعة، لكن حشرها في زاوية التسييس للضغط على الدولة في إطار مواجهة مكشوفة تشهدها المنطقة، يلهب القضايا ولا يسهم في معالجتها، بل يرفع من درجة حساسية المجتمع تجاه هويته، ويعزز من تحفظه على كل نية أو سعي لإحداث التغيير.
 
أغلب ما تشير إليه الإحصاءات التي تعلنها وزارة الشؤون الاجتماعية أن أغلب أسباب الهروب بين الإناث السعوديات تعود إلى تفكك الأسرة والإهمال وفقدان رعاية الوالدين وعدد من الأسباب الاجتماعية البحتة، واعتساف الواقع بالأسباب السياسية تجن وتشويش مضرّ.
 
بالمحصلة، لا يمكن أن ندس رؤوسنا في رمال التجاهل والتغاضي. لكل فتاة قصتها، ولا يمكن إصدار أحكام عبثية وإنزالها على وقائع منقوصة، مثل أن فتاة ما تكابد نوعا من الحياة القاسية التي لا توفر أبسط مخرج للانفكاك منها، وبالتالي لا تشبه سواها ممن تحظى بحد الضرورة من دعم الأسرة ومواتاة الظروف، وبذلك لا يصح استنساخ الأحكام من قصص شاذة، ومن جهة أخرى لا يمكن إنزال الأحكام العامة على كل القصص المتنائية في ظروفها وتفاصيلها.
 
مسؤولية الدولة والمجتمع، وهو ما يحدث تقريبا الآن، أن توطّن المناخ العادل والموضوعي لتوفير الحق في حياة كريمة مكفولة للجميع بلا أدنى تفريق وتوزيع على أي أساس. وأن تقرّ من القوانين والضمانات ما يعالج الحالات الشاذة التي تنبت على سطح كل مجتمع طبيعي، بما يرفع الظلم عن المظلومين، بما لا يفتّ في عضد المجتمع أو يؤثر على استقراره وانسجامه مع ثوابته التي تسمو على الاختلافات، وتعطي الإطار العام لتعريف هويته المجتمعية.
 
كان هناك واقع غير سويّ، وتقاليد رثّة تنتمي إلى مجتمع قديم، تغيرت طبيعة المجتمع، ولم تتغير القوانين الناظمة والقيم الحاكمة له.
 
الانفتاح الاتصالي الذي احتك به المجتمع الخليجي فكك الثقافة الطاغية في تنظيم حالة المجتمع وتأسيسه، ورفع من إيقاع الحياة التي ينشدها ويفضلها.
 
وتحت ضغط ما تقذفه هذه الشبكات الاتصالية من نماذج الحياة العصرية والمنفتحة جدا، بالقياس إلى بعض الأوساط الاجتماعية المتحفظة، تشذ قصص بدوافع مختلفة، برجاء ألا تشوّش على نهج المملكة العربية السعودية نحو التحديث الناضج والسوي.
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد