لا يصلح الدهر ما أفسد العطار

mainThumb

07-05-2009 12:00 AM

هشام خريسات
مثل شعبي أعرف أن صيغته مقلوبة إذ تداوله الناس بقولهم: (لا يصلح العطار ما أفسد الدهر) و هو شطر من بيت شعر لصفي الدين الحلي ينعى فيه السلطان الناصر و هو في مرضه الأخير بقوله:

و رامــــوا بأنــــواع العقـــاقــيـر برأه وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟!

حيث يقف "العطار" و هو طبيب تلك العصور عاجزا عن إصلاح ما أفسدته الأيام و الأعوام الطويلة في جسد ذلك السلطان العجوز، فماذا عن صيغتي في عجز الدهر أن يصلح ما أفسده "العطار"؟

إن هذا المثل المقلوب يشبه المثل الشعبي العامي الذي يقول: (مجنون رمى حجر في بير ميت عاقل ليطوله) مع فارق هام جدا هو أن الذي رمى الحجر ليس مجنونا بل هو أعقل العقلاء، هو "العطار" الخبير الحاذق الذي يفترض فيه أن يصلح و يطبب، فكيف به و هو السبب في المشكلات و المعضلات؟! و قد سمعنا من جداتنا: (غلطة الشاطر بميه).

و سأضرب أمثلة على هذا المثل المقلوب لأبرهن لكم أنه الأعم الأشمل من وحي تجربتي العملية في نقابة المهندسين الأردنيين على مدى ستة عشر عاما شهدت فيها عن قرب كثيرا مما أفسده "العطار" و لا يزال الدهر عاجزا عن إصلاح ما أفسده، ليس لأن غير النقابة من المواقع ليس فيها عطارون، فمعظم نقاباتنا و أحزابنا و جمعياتنا و نوادينا و صحفنا و شركاتنا و مؤسساتنا و وزاراتنا مليئة بالعطارين.

من أهم القضايا التي أفسدها "العطار" قبل خمسة عشر عاما أو تزيد مشروع (التعاونيات الهندسية) و هي جمعيات تعاونية هندسية رعتها النقابة – دون دراسة اقتصادية جادة- و سخرت لها كل إمكانياتها الإعلامية و الجماهيرية و النقابية ، و كنت أرى بذور فشلها فيها و قد تزامن طرحها مع انهيار أكبر نظام اشتراكي شمولي عرفه العالم، و ظللت أحذر القائمين عليها من فشلها المحتوم رغم الإقبال المذهل عليها و رغم تغلغلها في ميادين طموحة كالحاسوب و الصيانة العامة و القوالب المعدنية و غيرها، و ما هي إلا أشهر حتى انهارت و أفلست بل بقيت أجهزة الحاسوب التي كلفت ألوف الدنانير في إحداها مرتعا للقوارض و الحشرات و العفن حتى الصدأ الكامل، و حاولت النقابة أن تتملص من المسؤولية ببعدها القانوني باعتبار أن لهذه التعاونيات هيئاتها الإدارية المنتخبة ، و لكن المسؤولية النقابية و الأخلاقية ظلت سيفا أشهره مئات المهندسين الذين فقدوا مساهماتهم إلى أن اضطرت النقابة أن تتحمل كافة الخسائر.

أما القضية الكبرى التي أفسدها "العطار" منذ عشر سنوات فهي صندوق القرض الحسن الذي بدأ بفكرة بسيطة بدت و كأنها إبداعية خلاقة رغم بدائيتها و كانت غلطة "العطار" الكبرى في أن القائمين عليها لم يقوموا بإجراء دراسة اكتوارية لحساب مدى جدوى و استمرارية هذه الفكرة القائمة على إقراض المشترك بعد سنة أربعة أضعاف المبلغ المودع ليسدده بالأقساط على خمس سنوات، و لو أجريت هذه الدراسة بحسبة بسيطة جدا لأوقفت مسلسل معاناة لا يزال مستمرا إلى يومنا هذا حيث لا يزال (1376) مهندسا منذ خمس سنوات ينتظرون قروضهم التي وعدوا بها بعد عام واحد فقط ، مما اضطر (4125) مهندسا إلى الانسحاب، بعضهم بعد سنوات من الادخار دون أن يحصلوا على موعودهم و لا أي تعويض عن سنوات الانتظار، صحيح أن (4142) مهندسا حصلوا على قروض حسنة بمبلغ قارب (42) مليون دينار و لكن هذه المعاناة و عدم تساوي الفرص بين المشتركين الأولين الحاصلين على القروض و اللاحقين المنتظرين و المنسحبين الذين وثقوا بمصداقية النقابة و كفاءتها في الإدارة المالية ظلت غصة في الحلق و ستبقى، حيث لا زلت أذكر ذلك المهندس الذي أتاني باكيا و يقول إنه سيطرد من بيته بسبب عجزه عن أداء مبلغ مالي كان التزم به ظنا منه أنه سيحصل على قرضه الحسن في موعده، و آخر انفصل عن قرينته بسبب تأخر القرض، و ثالث دخل إلى النقابة مهددا بقتل نفسه بمسدس في يده إن لم يحصل فورا على القرض الحسن، حتى إن لجنة الرقابة التي ارتضاها ديوان لمحاسبة لتدقيق الأداء المالي للنقابة لم تجد ثغرة تلج من خلالها للوم إدارة النقابة غير هذا الملف الشائك.

قضية ثالثة و أخيرة على سبيل لمثال لا الحصر أفسدها "العطار" هي مشروع تأسيس (الشركة المهنية العقارية المساهمة) التي بادرت إليها النقابة في ظروف لم تدرس جيدا و بتوليفة كانت و لا زالت مثار جدل و نقاش، تحمسنا لها جميعا حتى إنني أقنعت عدة زملاء و أصدقاء و نقابيين بالمساهمة فيها بألوف الدنانير و كنت أتمنى لو أنني أملك مبلغا يمكنني من المساهمة بالحد الأدنى، و كانت المفاجأة الأولى عندما طرح سهمها للتداول أول مرة فإذا برقم هزيل مخيب للآمال (1.05) دينار، ثم ارتفع قليلا و ما لبث أن بدأ رحلة الهبوط إلى يومنا هذا ليصل قبل أسابيع إلى سعر قياسي في الانخفاض (61) قرشا، و كانت المفاجأة غير السارة أيضا عندما امتنعت أمانة عمان عن الموافقة على إفراز مئات الدونمات التي اشترتها الشركة في الذهيبة الغربية كون الشركة لم تراع المخطط الشمولي عند الشراء مما حطم آمالنا في بناء مدينة سكنية نقابية بشر بها نقيب المهندسين المهندس وائل السقا في ذروة احتفالات النقابة بيوبيلها الذهبي و اعتبرت حينئذ قمة النجاحات المبهرة، و لا أدل على قتامة الصورة المؤلمة من مهندس اقترب مني يشكو حقيقة مرة مفادها أنه أودع أموالا تخص أيتاما هم أبناء أحد المهندسين و كيف أن هذه الأموال التي توقعوا بعد سنتين أن تنمو أضعافا مضاعفة تهبط قرابة النصف، و مهندس مودع آخر قبل مرور مهلة السنتين التي يمتنع عليه فيهما بيع أسهمه يبحث عمن يشتريها منه بأقل قدر ممكن من الخسارة.

و من باب العدالة في المقابل أن نعترف بأن إدارات النقابة المتعاقبة قد حققت نجاحات في العديد من المشاريع كالتأمين الصحي و صندوق التكافل و الشرائح التقاعدية و الأراضي و قروض التعليم الزواج و غيرها، و لكن ذلك لا يمنعنا أن ننتقد و بشدة إخفاقات كان بالإمكان تجنبها لو أعدت الدراسات المالية اللازمة بالشكل المناسب و خرجنا من بوتقة التسابق إلى تحقيق الإنجازات المتسرعة تحت الضغوط الانتخابية، و هي رسالة إلى الإدارة الجديدة للنقابة للاهتمام بجوانب الاستشارات و الدراسات المختصة قبل أن يفسد "العطار" من جديد ما لا يمكن للدهر أن يصلحه.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد