باحثونا في مصاف النخبة العالمية… ولكن أين العلوم الإنسانية؟

mainThumb

23-09-2025 10:58 PM

لم يعد البحث العلمي اليوم ترفاً معرفياً أو مجرد إضافة زخرفية لمسيرة الجامعات، بل أصبح معياراً حقيقياً لمكانة الأمم في سباق التقدم والنهضة. وفي زمن العولمة، لم تعد المنافسة محلية أو إقليمية، بل عالمية بامتياز، حيث يتسابق الباحثون من مختلف أصقاع العالم لإثبات حضورهم في ميادين الفكر والمعرفة. ومن هنا، يكتسب إدراج عدد من أساتذة الجامعات الأردنية ضمن قائمة أعلى 2 بالمئة من الباحثين الأكثر تأثيراً واستشهاداً بأبحاثهم على مستوى العالم، وفق تصنيفات مرموقة تعتمد بيانات Scopus ودار النشر العالمية Elsevier، دلالة عميقة لا يمكن التقليل من شأنها. فهذا التصنيف – على ما قد يُثار حوله من جدل بخصوص معاييره وقيمته العلمية – يظل مؤشراً لا يمكن تجاهله، كونه يقيس جودة الإنتاج البحثي ومدى تأثيره في المجتمع العلمي العالمي بعيداً عن الحدود الضيقة والفضاءات المحلية.

الأرقام الأخيرة أظهرت تصدر جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية المشهد بوجود ستين عالماً من أساتذتها في قائمة النخبة، تلتها الجامعة الأردنية بثمانية وأربعين عالماً، ثم جامعة اليرموك بثمانية عشر عالماً، فجامعة البلقاء التطبيقية بسبعة عشر عالماً. ورغم أن باقي الجامعات لم تُعلن بعد عن أعداد الباحثين المدرجين لديها، إلا أن المؤكد أن معظمها لا يخلو من كفاءات تستحق أن تُذكر في هذا السياق. هذا الإنجاز لم يأتِ صدفة، بل يعكس جهوداً مؤسسية واضحة لدى بعض الجامعات الأردنية في دعم البحث العلمي، وتحفيز باحثيها على الانخراط في إنتاج معرفة رصينة ذات أثر ملموس.

لكن الملفت للنظر والذي يستحق التوقف عنده أن الغالبية الساحقة من الباحثين الأردنيين المدرجين في هذه القوائم ينتمون إلى الكليات العلمية والطبية والهندسية. ففي جامعة اليرموك مثلاً، بلغ عدد المصنفين ثمانية عشر باحثاً، سبعة عشر منهم من الكليات العلمية بنسبة تقارب خمسة وتسعين في المئة، فيما يكاد يغيب حضور الكليات الإنسانية والاجتماعية. وهنا تطرح مجموعة من التساؤلات الجادة: هل السبب يعود إلى قصور لدى أساتذة هذه الكليات؟ أم أن اعتماد التصنيف على قاعدة Scopus – التي ترتكز في معظمها على البحوث المنشورة باللغة الإنجليزية – قد ظلم الباحثين الذين ينشرون بالعربية؟ أم أن هناك ضعفاً في جودة الإنتاج البحثي أو في عدد الاستشهادات بالأبحاث المنشورة في مجالات العلوم الإنسانية؟ أم أن العزوف عن النشر الدولي بعد الحصول على رتبة الأستاذية، إضافة إلى ضعف الحوافز وقلة الدعم المؤسسي، كلها عوامل ساهمت في هذا التراجع؟

إن تراجع حضور الباحثين في العلوم الإنسانية لا ينبغي أن يُفهم على أنه إقرار بتواضع شأن هذه العلوم، بل العكس تماماً. فالعلوم الإنسانية هي جوهر فهم الإنسان لذاته ومجتمعه وعلاقاته، وهي التي تتناول قضايا محورية مثل السياسة والحكم والحرب والسلم والهجرة واللجوء والمواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية والفقر والبطالة والعدالة الاجتماعية والثقافة والفنون والأدب والفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس والتربية واللغات والآداب المقارنة والإعلام والاتصال والقانون والفكر الديني والدراسات الحضارية، فضلاً عن دراسات النوع الاجتماعي، وحقوق المرأة، والطفولة، والعلاقات الدولية، ودراسات البيئة والمناخ، وقضايا المجتمع المدني، وكل ما يتصل ببنية المجتمع وتطوره.

هذه الموضوعات ليست أقل شأناً من العلوم الطبيعية، بل إن كثيراً منها يتقاطع مباشرة مع القضايا الوجودية التي تشغل البشرية اليوم. فالعالم يعيش صراعات سياسية متشابكة، وأزمات اقتصادية متلاحقة، وتحديات ثقافية واجتماعية معقدة، وكلها ميدان للعلوم الإنسانية التي تسهم في تحليلها وفهمها واقتراح الحلول الملائمة لها. إن غياب حضور قوي للعلوم الإنسانية في مثل هذه التصنيفات يضع الجامعات الأردنية أمام مسؤولية مضاعفة لإعادة النظر في آليات دعم الباحثين في هذه الحقول.

ولا يمكن أن نغفل وجود باحثين مجتهدين في الكليات الإنسانية ينشرون أبحاثهم بالإنجليزية في مجلات مرموقة، لكن أعدادهم ما تزال محدودة مقارنة بأقرانهم في الكليات العلمية. وهذا يدعونا إلى ضرورة إزالة العقبات أمام الباحثين في العلوم الإنسانية، وتوفير بيئة بحثية داعمة، وحوافز مادية ومعنوية حقيقية، إضافة إلى تشجيع النشر في مجلات عالمية ذات تصنيف متقدم. إن الجامعات الأردنية، إن أرادت التميز الحقيقي، لا بد أن تدرك أن قيمة البحث العلمي تكمن في تكامله، وأن قوة الأمة المعرفية لا تقوم فقط على الإنجاز العلمي في الطب والهندسة، بل أيضاً على قوة الفكر الإنساني والاجتماعي القادر على تشخيص مشكلات المجتمع وتقديم الحلول لها.

وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن الاستثمار في البحث العلمي يجب أن يكون خياراً استراتيجياً للدولة الأردنية، وأن يُوضع التعليم العالي على رأس أولوياتها الوطنية، ليس باعتباره قطاعاً خدمياً فحسب، بل بوصفه رافعة حقيقية للتنمية والتقدم. فمعالجة المديونية المتفاقمة للجامعات، وتمكينها من بناء قدراتها البحثية، يعدان شرطاً أساسياً إذا أردنا أن تبقى جامعاتنا قادرة على المنافسة في عالم لا مكان فيه إلا للتفوق والتميز والإبداع والابتكار. إن الدول التي راهنت على التعليم والبحث العلمي صنعت لنفسها موقعاً متقدماً في سباق الحضارة، ومن لا يستثمر اليوم في المعرفة، لن يجد غداً موطئ قدم في ركب الأمم الصاعدة.

إن الإنجاز الذي تحقق بوجود عشرات الباحثين الأردنيين في مصاف النخبة العالمية يبعث على الفخر والاعتزاز. لكنه في الوقت ذاته يضع أمامنا تحدياً أكبر: كيف نضمن أن يشمل التميز مختلف الحقول، العلمية منها والإنسانية على حد سواء؟ وكيف نجعل من هذا الإنجاز منطلقاً لنهضة علمية شاملة تضع الجامعات الأردنية في موقعها الطبيعي ضمن خريطة الإبداع الإنساني العالمي؟

إن مستقبل الجامعات الأردنية لن يكتمل بغير توازن معرفي يرفع من شأن الباحثين في كل التخصصات، ويجعل من البحث العلمي ثقافة مؤسسية لا استثناءً فردياً. فالتفوق في عالم اليوم لم يعد خياراً، بل شرطاً للبقاء، ولا سبيل إلى تحقيقه إلا من خلال رؤية وطنية تجعل التعليم والبحث العلمي عنوان المرحلة المقبلة، بوصفهما استثماراً في الإنسان، ورهاناً على المستقبل.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد