في نقد الخطاب السياسي الأردني

mainThumb

05-04-2011 11:22 PM

في نقد الخطاب السياسي الأردنييمثل الجانب السياسي جانبا واحدا فقط من جوانب الإنسان أو من جوانب أية هيئة أو مؤسسة اجتماعية أو إدارية أو ثقافية أو صحية أو رياضية، وينبغي النظر إليه على أنه متّصل بغيره من أوجه النشاط الإنساني في مختلف الميادين والمجالات، فالمعلم أو الأستاذ الجامعي أو الطبيب أو الرياضي أو الوزير أو النائب مثلا، ليس هو ما يقوم به أي منهم من عمل أو نشاط فقط، وإنما كل واحد منهم إلى جانب ذلك  هو كائن يعيش في وسط اجتماعي وثقافي وسياسي واقتصادي يتأثر بما حوله ويؤثّر فيما حوله كذلك، وبالتالي، فالسياسي يعكس بيئة اجتماعية وثقافية واقتصادية أو أية هيئة يتواجد فيها، وبهذا المعنى لا يمكن عزل النشاط السياسي أو الاجتماعي عمّا حوله أو عزل عمّا حوله عنه. فالعلاقات السياسية موجودة بالضرورة عند الناس أو بينهم، وقد لا يملك أي منهم شغفا أو ولعا بالقوة أو بالسياسة. وربما يكونون في مواقف يكون فيها أكثرهم تعطّشا للسلطة هو أقلّهم فرصة للوصول إليها. وربما كان في تهالك الناس على السياسة أو السلطة دلالة على أنهم لا يفهمونها أو لا يجيدون ممارستها لافتقارهم للمهارات التي تتطلّبها العملية السياسية، وبالتالي؛ ربما كانوا هم الأقلّ اضطلاعا بها وكفاءة. ولعله يصح أن نقول إن الساعين إليها يجب أن يحرموا منها أو لا بدّ من وضع العراقيل أمامهم حتى تقلّ فرصهم في الوصول إليها، لأنها أشياء تنقصهم، وهم يجدّون ويجتهدون لإكمال وجودها فيهم أو البحث عن وسائل لإيجادها فيهم. وهو ما يعني أنهم غير مؤهلين بدرجة كافية للقيام بمتطلباتها.


في حين أنه قد يكون أفضل وأكفأ من يتولّى موقعا سياسيا أو اجتماعيا هم الأقل رغبة في هذا المنصب بالفعل لأنها تشكّل جانبا رئيسيا من ثقافتهم وقدراتهم، وبالتالي، فهي لا تشغلهم كثيرا باعتبارها أشياء مكتسبة لا تكاد تضيف شيئا إلى وجودهم في الحياة. فلا الخبرة الحياتية ولا البحث المنظّم يشيران إلى أن المشتغلين بالسياسة يدفعهم إلى ذلك اهتمامهم بالصالح العام، بل ربما يدفعهم إلى ذلك إثبات الذات الغائبة عن مسرح الحياة والمجتمع لغياب القدرات الأوليّة في إمكاناتهم واستعداداتهم، أو يدفعهم إلى ذلك المحافظة على الإرث المعنوي للعائلة. والقول بأن هدف الساعين للسلطة هو الصالح العام بتوفير الأموال اللازمة للتنمية والضوابط اللازمة لتحقيق أهداف وخطط وطنية أو ما شابه ذلك؛ ما هو في الحقيقة إلا تصفية فئة مصادر القوة والنفوذ أو تحويلها أو توظيفها لصالحهم بحيث يضمنون السيطرة الكاملة على المجتمع أو يكون لهم النصيب الأكبر منها. إن مقولة الصالح العام ما هي إلا اليد الخفية القائلة إن الإنسان في سعيه إلى تحقيق مصالحه الأنانية الضيقة يؤدّي، وكأنه بتنظيم هذه اليد الخفية، إلى خير الصالح العام وإلى تحقيق منافع للآخرين. والدليل على ذلك هذه الصيحات الهائجة ضد الفساد بأشكالها كافة من مختلف المسؤولين أو قل هذا الصوت المجلجل لجلالة الملك عبدالله الثاني بأن لا أحد فوق القانون.


وإذاً، في الميدان السياسي رجال متفاوتو القدرة والمهارات على أداء مهامهم ومسئولياتهم، وهذا ما يسمح لنا بالقول بأن السمة المميزة للسياسة اعتمادها اعتمادا كبيرا على السمات الفكرية والعقلية للذين يمارسون السياسة وليس على ما تتطلّبه الظروف الاجتماعية وحاجاتها. إن هذا يجعلهم ضمن هذه العقلية بسماتها أشبه ما يكونون بآلة مما يفقدهم استقلالهم الأخلاقي وعقلانيته الأساسية جانحين في شئون المجتمع إلى أن يغدو مجرد وسيلة لتحسين أساليب وتقنيات أغراض مراكز القوى والنفوذ. في حين أن المطلوب أن يتحوّل السياسي الأمين من حالة قرار الرجل إلى حالة رجل  القرار ومن حالة سياسة الرجل إلى حالة رجل السياسة. فنحن عندما نتأمّل في هذه الأحوال؛ فإنه يسهل علينا أن نرى كثيرا من أصحاب النفوذ والقوة لا يعون مداهما الفعّال ، لأنهم لا يستطيعون تجاوز بيئاتهم الخاصة واليومية، فمشكلاتهم تبقى مشكلاتهم الخاصة ومنفصلة عن مشكلات المجتمع الخاصة والمختلفة عن مشكلات أصحاب القوة والنفوذ، ومن هنا، قلنا إنهم غير جديرين بأن يكونوا من أصحاب النفوذ والقوة.


ومهما يكن من أمر؛ فالأزمة الحقيقية تزداد حدة عند السياسيين في فهم الظواهر السياسية دون الرجوع إلى البنى الاجتماعية والاقتصادية التي تتفاعل فيها ومعها هذه الظواهر، ووفقا لاستخدام بارسونز؛ فالنظام السياسي وكذا النظام الاقتصادي هما جزءان أو جانبان أو نظامان فرعيان للنظام الاجتماعي، وعليه؛ كان من الملحّ على المهتمين بالسياسة العودة مجدّدا إلى المجتمع وإلى أولويات الجانب السياسي في الجانب الاجتماعي ودراسة  الظواهر السياسية داخل أبعادها الاجتماعية.


بمعنى أن المجتمع ما هو إلاّ وحدة تتألّف من وحدات أو أجزاء متساندة بحيث إن أي تغيّر في جزء معيّن يؤثّر في بقية الأجزاء والكلّ معا، فالمجتمع باعتباره وحدة واحدة يتكوّن من أفراد يخضعون لتأثير قوى اجتماعية ذات سمات عامة أو ثابتة. وتتحدّد حالة الوحدة في أي وقت بالبيئة الخارجية للإنسان، وبمجموعة من العوامل تخرج عن نطاق المجتمع في وقت معيّن كالأحداث السياسية مثلا، كتأثيرات القضية الفلسطينية وأحداث غزو العراق للكويت في بنية المجتمع الأردني، وهو ما يشير إلى تأثير المجتمعات الأخرى المحيطة بالمجتمع الأردني وكذلك تأثيرات الانتفاضة التونسية وانتقالها إلى مصر وغيرها. وتتحدّد حالة الوحدة بعناصرها الداخلية، وبتعبير أدق، المصالح والمعرفة والمشتقات كعناصر قليلة الأهمية لأنها سطحية ومتغيّرة، والرواسب كعناصر مهمة لأنها عميقة ودائمة تتجلّى في الغرائز والميول الإنسانية الفطرية والمكتسبة إلى حدّ ما من خلال بعض مظاهر السلوك المكتسب. والتي تعتبر مظاهر أو تجليات للعواطف والمشاعر. فالوحدات أو قل الأنساق الاجتماعية قادرة على أداء وظيفتها والقيام بدورها إذا كانت قادرة على الكشف عن العواطف لما لها من دور رئيسي في تحقيق التوازن الاجتماعي. وهذا ما يجعلنا ننظر للعشائر كوحدات لما بين أفرادها من عاطفة القربى والدم وما يترتّب عليها من مساندة وتعاضد.


فالمجتمع يمثّل وحدة في حالة توازن ديناميكي لأن بداخله قوى تعمل على تعزيز صورة المجتمع وشكله التي حققها أو استقرّ عليها دون أن تتعرّض لتغيّرات شديدة، وفي مثل هذه الحالة، فإن قوى الوحدة الداخلية أو قل فإن قوى النسق الداخلية سوف تدفع المجتمع إلى استعادة التوازن وتعمل بدورها على إرجاع المجتمع إلى وضعه المستقرّ. وتتألّف هذه القوى الداخلية في الأساس من عاطفة المقاومة لأي شيء يعوق التوازن الدخلي، وبدون هذه العاطفة يكون من العسير التصدّي لأي تعديل طفيف يطرأ على النسق الداخلي، هذا إن لم تتعذّر مقاومته على الإطلاق، وبالتالي يحقق آثاره دون اعتراض. ويشتمل على قوى داخلية تعمل على تحقيق التوازن وتواجه حدوث الخلل الذي يطرأ عليه ويصيبه.  فالأساس الفكري في تحليل فئات المجتمع هو النظر إلى كل فئة أو جماعة أو لنقل عشيرة هو اعتبارها منظومة تتألف من مجموعة متكاملة من الناس تساهم عناصرها بأشكال مختلفة في الوصول لهدف واحد، ويتوقّف بعضها على البعض الآخر، كما أن هذه المنظومة تتألف من مجموعة منظومات فرعية. فمفهوم البنية الاجتماعية يعتمد على النماذج العشائرية والفئوية التي تكوّنت في الواقع الاجتماعي وليس على المجتمع ككل من غير اعتبار لهذه المنظومات العشائرية أو الفئوية. إن النظر إلى المجتع باعتباره منظومات متفاعلة يساعدنا على إدراك الواقع الاجتماعي ككل نوعي وديناميكي، وليس باعتباره منظومات متجاورة أو كجزر منعزلة أو معزولة عن بعضها مما يمكن أن يعني أن المجتمع يتكوّن من جماعات تعمل كل منها بمعزل عن الأخرى. وربما يحدث هذا في غياب الدولة، ولكوننا نعيش في ظل دولة حديثة ذات أسس ومؤسسات ومقومات وقوانين، سنحاول امتحان هذه الفرضية ومدى صدقها في المواءمة بين متطلبات الدولة الأردنية الحديثة وطبيعة المجتمع الذي يعيش تحت ظلّ هذه الدولة ومدى التطوّر والتحديث الذي أدخلته الدولة أو مدى محافظتها على مراعاة طبيعة هذا المجتمع بما يحفظ سلطتها ووجودها ويخدم أهدافها القريبة والبعيدة، وغني عن القول إن سلامة المجتمع من سلامة الدولة.


النسق الثقافي للمجتمع والقوة

إن اعتمادنا على هذا المنهج في التحليل ينطلق من مبدإ مؤداه أن المجتمع الأردني عبارة عن نسق مؤلف من مجموعة نظم اجتماعية وأنماط محدّدة للثقافة، ويبدو ذلك من خلال الألوان المختلفة لمكونات المجتمع الأردنية وهو ما اصطلح على تسميته بمختلف المنابع والأصول ، وهذه النظم الاجتماعية خاضعة لتنظيم محدّد، وأنماط الفعل الاجتماعي مبنية في هيكل خاص بها وتضرب جميعا بجذورها في الحاجات الوطنية وترتكز على عواطف قوية تعمل على حفظ الوطن والوحدة الوطنية، وهذا يمثّل تجسيدا للقيم الثقافية والاجتماعية التي تمثّل الجهاز المادي والعقلي والروحي الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالنظم الاجتماعية للمجتمع الأردني. أي أن أنماط الثقافة مرتبطة بصياغة نظم المجتمع. ومن هنا؛ فإن تحليل البناء الاجتماعي للمجتمع في ضوء مضمون الشكل والنظام الثقافي في المجتمع ككل؛ يعني أن هذا البناء هو وحدة تحتوي وحدات أو أنساقا أو منظومات فرعية، إلا أنه ينبغي النظر إليها على أنها مترابطة ومتفاعلة من حيث الأدوار التي تؤديها في إطار الكل. فالتحليل الذي نلجأ إليه لا يرتكز على الظواهر الجزئية بل على تفسير الظواهر الشاملة لفئات المجتمع لفهم التفاعل والتساند والاعتماد المتبادل بين مختلف مكوّنات المجتمع والثقافة، وبالتالي دور أو أهمية هذه الفئة أو تلك في البنية السياسية الرسمية بشقيها الهرمي ممثّلا بالأسرة الهاشمية وبالسلطة التنفيذية ومصادر القوة ومدى استيعاب هذه الجوانب أو بعضها لفئات المجتمع المختلفة من خلال أشكال وأنماط تاريخية واقتصادية ونخبوية كمنظومات لا يعرف كل منها إلا شكله ونسقه الخاص به في الغالب.


 ومن الضرورة بمكان أن ننبه إلى أننا سنحاول التركيز على مفهوم القوى الاجتماعية كجماعات سياسية ذات مصالح سياسية يفترض وجود توزيع ضمني للقوة الاجتماعية من حيث مصادرها وأشكالها بحيث تمتلك هذه الجماعات أنصبة متفاوتة من القوة بشكل مواز لإمكانية وصولها إلى مصادر القوة ، ولمّا كان محور علاقات القوة هو الحكم والسلطة في المجتمع، فإن الصراعات والانقسامات بين القوى الاجتماعية تتّجه نحو المحور نفسه. فالصراع والتنافس ظاهرة طبيعية في سلوك الأفراد والمجتمعات. وهل نذكّر هنا بمقولة الفيلسوف الألماني هيغل الذي بشّر بنهاية التاريخ حين أعلن أن مصدر التاريخ هو الصراع والتناقض. ويضيف هيغل، فإذا استسلم الإنسان أو أسلم قياده إلى فكر وثقافة تخلوان من الصراع ينتهي التاريخ. وحين يكون مصدر التاريخ الصراع والتناقض؛ فإن هذا يقودنا فورا إلى ما قاله فوكو في شرحه لتقنيات القوة بأن التاريخ ما هو إلا سلسلة غير منقطعة من التسلّط والهيمنة تتّخذ أشكالا مختلفة ابتداء من سلطة المتكلم على السامع في الخطاب إلى سلطة الحاكم على المحكوم وليس هناك إمكانية للإنسان أن يتحرّر منها، لأن القوة موجودة في كل شيء و في كل مكان، وما الخطاب في حقيقته إلا الممارسة في كل مجالات الحياة ووسيلة للهيمنة والتسلّط.


فبنية كل نمط من هذه الأنماط؛ ما هي إلا نسق من التحوّلات له قوانينه الخاصة، ومن شأن هذا النسق أن يظلّ قائما ويزداد ثراء ونفوذا بفضل الدور الذي تقوم به تلك التحوّلات نفسها داخل النمط نفسه دون أن يكون من شأن هذه التحوّلات أن تخرج عن حدود ذلك النسق أو تستدعي أية عناصر أخرى تكون خارجة عنه. فالنظر إلى هذه الأنماط أو الظواهر الاجتماعية كمراكز قوى ونفوذ أو كعشائر يجب أن يتمّ من خلال اعتبارها بنيات لا كأشياء أو كأفكار، وهذا يتطلّب منا الاهتمام بها إثنولوجيا مما يبرز صلات القرابة كعامل مهم في تكوين تلك العشائر أكثر مما يبرز التناغم في الأفكار أو المعتقدات أو الآيديولوجيات. فطبيعة العلاقات السائدة في الأردن يغلب عليها الطابع التقليدي ممثّلا في الجانبين الديني والعشائري أو القبلي. فلا تزال العشيرة، ونحن هنا، نفضّل استخدام لفظة العشيرة على القبيلة لما للفظة الأخيرة من أبعاد تاريخية انحسر استعمالها بفضل التطوّر الذي أصاب المجتمعات، أقول ما زالت العشيرة هي محور الحياة السياسية والاجتماعية، ولا يزال الولاء للعشيرة أو العائلة أحد أهم المحدّدات المهمة للسلوك السياسي والثقافي للفرد. ولا نظن أن في ذلك عيبا أو نقصا في أن ينتمي الفرد لعشيرته، فالتماهي مع الطبيعة أو مع العشيرة يعطي الفرد شعورا بالأمان، إذ به ينتمي إلى كلّ منظّم ويشعره بجذوره فيه ويعرف أن له فيه مكانا راسخا، وقد يبتلى الفرد بالفقر، ولكن الأسوأ من هذا هو شعوره بالعزلة عن عشيرته مما يجعله يعيش حالة من الشك بوجود متقطّع. ويساعد شيوع مثل هذه الثقافات التقليدية على تكريس معاني الولاء للسلطة الأبوية ممثّلة بالأب في الأسرة وبالأب المعنوي ممثّلا بوجيه العشيرة وبالأب المعنوي للمجتمع الأردني ممثّلا بالملك. لكن شعور الفرد هذا إذا بقي ضمن هذا الانتماء المغلق على العشيرة يصبح إشكالية تحتاج إلى معالجة. فالإشكالية هنا تقتضي عملية انتقال بالولاء من الجماعة التقليدية إلى الدولة الحديثة أو تنظيم هذا الولاء وتوجيهه بما لا يتقدّم الولاء للعشيرة أو يتضارب مع الولاء للدولة. وبمعنى أكثر وضوحا، فإن مصداقية الولاء والانتماء للعشيرة هو القناة التي تصبّ في الولاء للدولة، وإلا كان الولاء للعشيرة بهذا المعنى يدخل في باب المؤامرة الخفية والخرقاء على السلامة الوطنية للدولة، هذه المؤامرة قد تتحوّل مع الزمن إلى مؤامرة علنية وصريحة تعصف بالعشيرة وبالدولة معا. ولعل من المفيد أن نذكر هنا أنه كلما تراجع صوت العشيرة المغلق في الداخل ارتفع صوت الوطن في الخارج.


مجتمع الدولة أم دولة المجتمع

وعلى الرغم من اتّجاه الأسرة الهاشمية من خلال أجهزة الدولة المختلفة إلى تحديث جوانب الحياة السياسية والاجتماعية، إلا أن عملية التحديث لم تمسّ سوى الأشكال فقط، وبقي مضمون الحياة تقليديا ولم تحرز الجهود كثيرا من النتائج على أرض الواقع. فمازال هناك منصب يعرف بمستشار الملك لشئون العشائر، كما أن هناك وزارة تسمّى وزارة التنمية السياسية، ولا نكاد نرى لها أثرا ملموسا في مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية، فكيف يمكن أن تنجح هذه الوزارة في تحديث البنية الثقافية السائدة ونقل المجتمع من حالة العشيرة ذات الثقافة المنغلقة التوجّه والمشدودة إلى مفاهيم تاريخية انتهى عصرها وزمانها إلى حالة التنمية السياسية التي تريد للمجتمع أن ينفتح على الدولة والعصر ومستجدّاته ومستحدثاته، أليس في هذا إيحاء بأن الدولة تقرّ واقعا تاريخيا في بنية المجتمع ولا تقدر بل لا تريد أن تقدر على محوه أو تغييره؟ فوجود بعض هذه الأجهزة، إن على مستوى منصب شئون العشائر أو منصب وزير التنمية السياسية يشير إلى أن جلالة الملك يعرف ويعترف بأن جهوده في بناء مؤسسات الدولة الحديثة لا تزال تصطدم بعقبات كثيرة. من أهمها أن أصحاب القوى والنفوذ ما زالوا يلجؤون إلى تفسير الكثير من توجيهاته حسب مصالحهم ويستعملونها غطاء شرعيا لممارساتهم، وأشير هنا تدليلا على ذلك بأنه قال في إحدى لقاءاته بأعضاء الحكومة ونخب  سياسية واجتماعية بأنه لا تعليمات ولا توجيهات من فوق فكلكم صاحب قرار ولتعملوا وفقا لمصلحة المواطن، أي أنه لا يريد لأحد أن ينفذ أجندة خاصة به ويحتمي بادعاء توجيهات من جلالته.


فتحليل الواقع يدفع إذا إلى اكتشاف الفئات المحدودة ومصادر القوى الفئوية الضيقة التي  تتحكّم بالدولة والمجتمع بشكل ليس بعيدا في بعض الأحيان عن عائلات السيطرة والسلطة أو هكذا يخيّل إليهم أنهم كذلك. لنلاحظ مثلا أن عين هذه الفئات النافذة على الجانب السياسي أكثر من عينها على أرقام البورصة، عينها فعلا على التنافس بين الأشخاص وشاغليها أكثر من عينها على التنمية وأسبابها للمجتمع، عينها على نموّ وارداتها أكثر من عينها على إنماء واردات المجتمع. نعم هناك اقتصاديون أردنيون، ولكن وجود فكر اقتصادي أردني والمكانة الحقيقية لهذا الفكر في الأوساط الاجتماعية والشعبية لا يزالان موضع تساؤل. فمنطقة العقبة الاقتصادية الحرة مشروع وطني متقدّم، ولكن هي الفئات المحدودة الدخل التي لا تكاد تلمس أثرا لتطوّر ما في مداخيلها، وهي نفسها الفئات التي لا تستطيع أن تقوم بمشاريع تعود عليها بفائدة تذكر. ربما يكون سبب ذلك يعود إلى قلة الاكتراث لدى أكثرية فئات المجتمع الأردني بالفكر الاقتصادي، وبالتالي، فإن فائدة منطقة العقبة الاقتصادية وعوائدها وما شابهها من مشاريع ينتسب إلى عائلات ذات ثراء أو جاه وطنية أو غير أردنية كذلك.


 فالعلاقات الاجتماعية كانت وما زالت إذاً؛ هي المادة الأولى التي تساعدنا على تحديد هذه النماذج الاجتماعية وتوضيح بنيتها. وتعمل هذه النظم أو قل هذه البنيات الاجتماعية ممثّلة في العشائر والفئات النافذة ومصادر القوة من خلال العديد من المسالك على تعميق دور التقاليد الدينية والعشائرية كمصادر أساسية لشرعية نفوذها، وبالتالي لوجودها القوي والفعّال. فالمؤسسة العشائرية في الأردن هي عقلية عامة ومبدأ تنظيمي ولو من خلال الشخصيات البارزة ضمن هذه العشائر، وليس فقط صلة القرابة والنسب. وهي عند بعض العشائر قنوات للمحافظة على مراكز النفوذ والسلطة الاجتماعية والسياسية. كما أن الطابع العام للعشائر الأردنية لا يزال في المراحل المتوسطة إن لم نقل في المراحل الأولى من تطورها السياسي، فأغلبها لا يعرف بعض المقومات الأساسية للحياة السياسية كالدستور والأحزاب والنقابات. كما أن القوى السياسية والتيارات الاجتماعية لم تتبلور بالشكل الذي يمكّنها من نقد البرامج السياسية للدولة وتحدّيها، مع أن هناك العديد من النقابات المختلفة لكن أنشطتها في طرح البرامج السياسية محدودة الأثر بسبب جهود الدولة أو الأصح بعض المتنفذين في منع قيام هذه النقابات من أن يمتدّ تأثيرها إلى فئات المجتمع العامة المختلفة وإبقاؤها في إطارها المهني، أعني مقاومة جهود النقابات من أن تصل أطروحاتها وبرامجها إلى البنية التحتية في تكوين المجتمع الأردني على مستوى العشائر المختلفة مما أبقى جهود النقابات بدون فاعلية حقيقية. ويبدو أن الدولة مثلا قد بدأت تحس بضرورة الاستجابة للحداثة السياسية بدرجة أسرع وذلك من خلال محاولة تشكيل نقابة للمعلمين.


فالفئات الحاكمة في أجهزة الدولة في سعيها للمحافظة على الاحتكار الفعّال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع والدولة عملت ما وسعها العمل لتهميش المعارضة وتنظيماتها، وبخاصة جبهة العمل الإسلامي، وأخضعت المؤسسات الاجتماعية لخدمة الدولة، وقضت على استقلالها، أقول في سعيها في المحافظة على ذلك كانت في واقع الحال تقضي على الأسس المادية لمؤسسات المجتمع المدني الحديث كالنقابات المهنية والعمالية والأحزاب السياسية الفعّالة والتنظيمات السياسية والاجتماعية والمؤسسات الدينية والإعلام، ولم تسمح مثلا إلا حديثا بالإعلام الخاص ضمن شروط صعبة، إن ذلك كله يتيح المجال لعودة التنظيمات المختلفة الرأسمالية كالقبيلة والعشيرة والإقليمية كتنظيمات بديلة أو على الأقل الاحتماء بها بدلا من الاحتماء بمؤسسات الدولة ، أي كشبكة جديدة للعلاقات الاجتماعية. لقد كان الوقوف في وجه مؤسسات المجتمع المدني من إعطائها الحرية الكافية للتعبير عن نفسها وإثبات وجودها السياسي لا المهني - كما هو الحال الآن - أو إعاقة ذلك، من أهمّ الأسباب التي أدّت إلى العودة إلى المجتمع العشائري وقرابة الدم وأكاد أقول العودة إلى أن هذا من هذه المنطقة وذاك من تلك المنطقة مما أسقط القناع عن هذه الشبكة الاجتماعية التي ما تلبث أن تهدأ وتتوارى حتى تعود للظهور بفعل ضغط القوى التي تستغلّ مواقعها الرسمية المؤثرة، وحتى نكون منصفين لا بدّ من أن نذكر أن الأحداث السياسية التي يتحمّلها المجتمع الأردني بحكم موقعه الجغرافي وتأييده المستمر للقضية الفلسطينية تؤثر هي الأخرى في عودة هذه الشبكة الاجتماعية.


ومن الضرورة بمكان أن نميّز بين التكتلات القبلية والعشائرية التي يعتبر وجودها أمرا طبيعيا في ظلّ المركزية الاقتصادية المتمثّلة بالدولة الوطنية الأردنية وأصحاب الثقل الاقتصادي. فهذه التكتّلات العشائرية تهدف عادة إلى الحفاظ على وجود اجتماعي وتماسك أفراد العشيرة مع بعضها وعلى تقاليدها العريقة في وجه التقنين الذي تقتضيه متطلبات الدولة الوطنية للثقافة المشتركة والوجود المشترك. إن ما نعنيه بالشبكة الاجتماعية هو تسييس لقضية العشائرية والأقليات من خلال النظر إليها من قبل مراكز القوى والنفوذ على أنها ما نسميه بعشائر المتن وعشائر الأطراف وغير ذلك بقصد تعزيز شعور عشائر المتن والفئات النافذة بوجودها السياسي والاجتماعي المتميز. وهو ما يساعد على تعزيز هذا التوتّر الخفي والخجول بين عشائر المتن وعشائر الأطراف ومراكز القوة على العموم، هذا التوتّر الذي أدّى إلى عدم الثقة بالدولة وبالنظام السياسي إلا من قبل عشائر معينة أو فئات معينة مستفيدة من امتيازاتها بحيث تقدّم القواعد التي تحكم توزيع الأنصبة في الحياة السياسية. وربما كان من الملاحظ أن التشكيل السياسي للدولة الأردنية هو أحد أهم الأسباب لوجود بعض مظاهر التوتّر في المجتمع الأردني، فتشكيل الدولة الأردنية ينطوي على ما هو هجين بحكم التاريخ والتراث العربي وأدبياته الاجتماعية وضرورة التلاؤم والتجانس مع متطلبات الدولة التي أرادت بريطانيا إنشاءها باسم الدولة الأردنية.

 فهناك معطيات تاريخية اجتماعية ومعطيات سياسية جديدة تبقي على حالة النظام السياسي في المجتمع في توتّر وعدم استقرار عميق، أي أن الدولة الأردنية ستبقى لزمن طويل انتقالية حتى يتمّ هضم المجتمع والدولة للأنظمة السياسية الحديثة التي بموجبها جرى تأسيس الدولة. فالتناقض بين الثقافة السياسية المحلية الأصيلة الجذور والثقافة السياسية النخبوية المستوردة التي تشدّد على مفهوم الدولة الحديثة هو من أهمّ ما يوضّح أسباب هذا التوتّر الخفي في المنظومة الاجتماعية الأردنية. وأكثر من هذا؛ فإن التناقض يبدو ظاهرا في سلوك النخب السياسية، فهي كثيرا ما تشعر بتناقض شديد بين مبدإ المساواة وإتاحة الفرص في المناصب حسب الكفاءة والمهارات من جهة واعتبارات المحسوبية والوساطة من ناحية أخرى. فأصحاب المناصب العليا بين ضغطين متضادين، ضغط العشائرية والفئوية وضغط القانون والتعليمات بل وقل ضغط الأسرة الهاشمية باتجاه المساواة بين فئات المجتمع المختلفة. نستطيع أن نتبين هذا التوتّر والاضطراب أو هذه الفجوة بين الواقع المحلي الذي يعيق تقدّم الأفكار السياسية الجديدة إذا ما نظرنا إلى الواقع الجغرافي والطبيعي للأراضي الأردنية. فحدود الأردن السياسية مصطنعة ومصادره الطبيعية فقيرة جدا، وأكثر أراضيه صحراوية غير قابلة للزراعة، ومعادنه غير موجودة أو في أحسن الأحوال محدودة، وإمكانات ميناء العقبة ضئيلة ولا ينشط إلا عند أزمات المنطقة السياسية، وكأن الأردن لا يعيش إلا بالأزمات وعلى الأزمات. طبيعته ومجتمعه وسياسته ومواطنه في توتّر. فمن أين أتيته وجدته في قلق سياسي متجدّد أنتجته آيديولوجية العشائرية والفئوية التي تدور في فلك السلطة وأنتجته طبيعة الفعل والنشاط السياسي للمنطقة، فهي بهذا تساهم في إنتاج وإعادة إنتاج ثقافة سياسية تسير عبر تعميم التماثل والتجانس ضمن فئات محدّدة ومعينة، وبعبارة أوضح تعمل على توفير شروط شرعية العشائرية المؤدلجة. فأخطر ما يواجه المجتمع الأردني هو سيطرة فئات ذات نفوذ على الهويات العشائرية المتداولة واعتبارها جزءا عضويا من شرعيتها الذاتية.

ولعلّ من المفيد، أن نشير إلى أن تجاهل بعض القوى في الجناح العسكري بطبيعة المجتمع الأردني هو ما دفع بعض الفئات النافذة في الجيش بمحاولة الانقلاب على الأسرة الهاشمية في أواخر الخمسينيات، فالمجتمع الأردني مجتمع غير مؤدلج في غالبيته وفي بنيته الثقافية التحتية، إنه مجتمع تقليدي يختلف عن مجتمعات سورية ومصر والعراق ولبنان، ففي تلك الدول عندما حاول بعض العسكر بكل سذاجة أن يستعملوا أسلوب تأليف القوى الاجتماعية والسياسية ضد بعضها البعض في أوضاع يغيب فيها الدستور وتنعدم سيادة القانون والحقوق الديموقراطية، تحوّلت التكتلات القبلية والطائفية والإقليمية وتنظيماتها وقواها الضاغطة إلى أدوات لتنظيم العملية السياسية أولا ووسائل حماية وتحقيق مكاسب ثانيا. وفي الأردن لا طائفية ولا تنظيمات سياسية حزبية فاعلة، ولذلك من المشكوك فيه أن تنجح أية محاولة للانقلاب على الأسرة الهاشمية لأنها لا تألو جهدا في تحديث الدولة والمجتمع وليس لها مصالح شخصية منفصلة عن مصالح المجتمع الأردني، فهي في أعلى هرم السلطة والقوى النافذة تتمتّع بامتيازات لا حدّ لها. ولا تستطيع اية جهة أن تدّعي أن بإمكانها أن تقدّم للمجتمع الأردني أكثر مما تقدّمه الأسرة الهاشمية أو ما تحاوله عبر جهود سياسية مضنية من أجل تحقيق وجود أفضل، مما يجعل أي ادّعاء أو محاولة للمطالبة بتغيير النظام السياسي الأردني غير مقبول عند فئات المجتمع الذي يعيش في ظلّ العشائرية التي تحس بأن أمنها وأمانها الوطني في ظل الأسرة الهاشمية. وعند محاولتنا تفسير مثل هذه المحاولات اليائسة والبائسة، لا بد من أن نأخذ في الاعتبار الجوانب الساكنة والديناميكية معا. فالدولة، تمكّنت من المحافظة على نفسها في تلك الفترة لأنها مارست بشكل فعّال أدوات السيطرة لكي تقلّل من إمكانية هجوم عنيف ضدّها ومن توقّع حدوثه، وليس من التفكير الواقعي في شيء التقليل من فعالية أجهزة الأمن الداخلي سواء كوسيلة للسيطرة على التوجّهات الحزبية الظاهرة آنذاك أو الممكن ظهورها لضبطها وضغطها إن هي أسفرت عن وجهها. وكنتيجة لمثل هذه القدرة من السيطرة تحدّ الدولة من آمال تلك التوجّهات المحتملة، فيعرف أصحاب هذه التوجّهات أنهم إذا أرادوا أن يكون لهم تأثير ما على الدولة؛ فعليهم أن يعملوا على إقناعها لا أن يعملوا ضدّها، وأن يوجّهوا ضغوطا محدودة للتأثير على اتجاهات معينة في السياسة لا أن يبتغوا تغيير طبيعتها الأساسية.

ولذا، فنحن نرى أن العائلة الهاشمية اخذت تحلّ عميقا في نخب العسكريين، كما  حلّت مسبقا في مختلف فئات المجتمع بنسبة عالية جدا بحيث إن المجتمع لا يكاد يعرف إلا من خلال العائلة الهاشمية، في حين أن العائلة الهاشمية معروفة في الوسط السياسي الدولي الفاعل في المنطقة والمتمثّل في بريطانيا من غير المجتمع الأردني الذي لم يكن قد تكوّن، أو في أحسن الأحوال كان على شكل جماعات ليست ذات وجود سياسي منظّم. إلا أنه كان لا بدّ من إيجاد هذا المجتمع بشكل سياسي منظّم حتى تأخذ العائلة الهاشمية شرعيتها السياسية على أرض الواقع، وبتعبير الفلاسفة لابدّ للعائلة الهاشمية أن تنتقل من حالة القوة والإمكان السياسي إلى حالة الفعل والتحقّق على أرض الواقع، فوجود الجانبين هو وجود ضرورة وتلازم. فكلاهما يمثّل أداة للآخر في تحقيق الوجود السياسي الأردني، فالعائلة الهاشمية تؤلف أقلية صغيرة صارت تسيطر على مجتمع متميّز بها، أو يمكن القول هو مجتمع غير متميّز بغيرها، أي إن العسكريين ليسوا سمة مميّزة للمجتمع الأردني وإنما هم يتميّزون بعدوى ما كان يجري خارج الأردن في سوريا ومصر والعراق بما كان يعرف بأزمة الآيديولوجيات الحزبية والانقلابات العسكرية. ومن هنا، فقد تميّزوا بما هو هجين وطارئ على المجتمع الأردني. وكان من الصعب أن تشكّل فئة العسكريين تهديدا حقيقيا للنظام السياسي الأردني، أو لنقل إن النظام السياسي الأردني هو نفسه سيبقى يشكّل تهديدا لكل ما هو هجين وطارئ عليه.

إن ذلك هو من أهمّ الوجوه المهمة لسياسة الراحل الملك الحسين بن طلال هو قابلية سياسة الدولة للتكيّف المتمثّل في تغيير دور الجيش وصورتهم. كان العسكريون في الخمسينيات القطاع الذي حاول زعزعة استقرار المجتمع والدولة من خلال محاولتهم الهيمنة على الدولة إلى حدّ كادت معه البنى السياسية تصبح كلها رهينة نزوات ضباط طامحين إلى درجة محاولة تغيير نظام الحكم.  ومن أبرز المظاهر في هذا المجال على نجاح هذه السياسة للعائلة الهاشمية هو أن الهيمنة القديمة التي حاول العسكريون فرضها على الملك والسياسة الأردنية بعامة قد توقّفت أو حتى يمكن القول إنها انعكست إلى درجة أن العسكريين قد أصبحوا أحد أعمدة الاستقرار للنظام السياسي الأردني بدلا من تشكيل تحديات للأسرة الهاشمية بخاصة وللنظام السياسي الأردني بعامة على الرغم من التحوّلات السياسية العاصفة في المنطقة. إن مسحا عاجلا للمشهد السياسي الأردني يبيّن بوضوح أن النظام السياسي الأردني قد أثبت أنه شديد الثبات بل وثبات يفوق المعتاد والمألوف عل  الرغم من وقوع الأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي نشأت أو تنشأ عن خيبة المجتمع من الإصلاحات التي ما فتئت الحكومات تعد بها. وقد أثبت كثير من الأزمات السياسية الداخلية بفعل تأثيرات القضية الفلسطينية أن الأسباب الكامنة لثبات النظام السياسي الأردني هو العناية الفائقة التي تبديها لفئات المجتمع الأردني بل وتحس أن المجتمع الأردني في علاقته بالأسرة الهاشمية هو أقرب إلى مكوّنات الأسرة الدافئة براعيها أكثر مما هو علاقة الحاكم بالمحكوم، وهذا ما يتلاءم مع التركيبة العشائرية للمجتمع. 

روح الفرد أم روح الفريق

وإذا ما انتقلنا إلى حقل مركزية الدولة والتكتلات الاجتماعية، فإن الذي يمكن أن يشار إليه هنا، أنّ دور الدولة يؤدّي دورا مركزيا كمنظّم لتكوّن الطبقات والدرجات الاجتماعية، مع أن الدولة الأردنية حديثة التكوين وتقودها الأسرة الهاشمية الواعية باقتدار، وليس من تفسير لما نجده فيها من تكتّلات جهوية أو فئوية أو نخبوية تصل إلى الواجهة السياسية ومراكز صنع القرار السياسي الداخلي سوى أن ننسب ذلك إلى مصادر القوى التي تحتكر كل شيء لصالحها على حساب مؤسسات المجتمع المدني، أو قل تطرح نفسها هذه الرموز بديلا عن الدولة الأردنية وبديلا عن مؤسسات المجتمع المدني وتصبح، أو هي تسعى لكي تصبح الرابطة الوحيدة بين العشائر والعائلات كتنظيمات لبعض الفئات التي تحكمها المصلحة الآنية وغريزة النجاة بالذات في ظل أوضاع اقتصادية تسوء باستمرار، ويصبح شعار الكثيرين الويل لمن لا سند له.

 إن أهمّ ميزات البنية الاجتماعية الأردنية يتمثّل في غياب المجتمع المدني ومؤسساته أو يكاد ، وهو ما يعرف بغياب شبكة المؤسسات الوسيطة بين الفرد والدولة مما أدّى إلى ابتلاع الدولة أو رموزها للمجتمع وما يترتّب عليه تراجع وانحسار حقوق الفرد وذاتيته، لأنه لا موقع له في شبكة المؤسسات الاجتماعية الغائبة أصلا أو تكاد، فوجود هذه المؤسسات هو الذي يحمي الفرد من التحكّم الاعتباطي للدولة. فغياب المؤسسات غيّب الفرد، وبقيت الدولة في الساحة وحيدة. فالنظام السياسي الأردني يقوده شخص واحد أو بضعة أشخاص. فهناك العائلة الهاشمية المالكة ولا خلاف عليها أو حولها من قبل المجتمع الأردني، ولكن إلى جانب ذلك هناك العائلة أو العائلات الحاكمة في الأردن في أحسن الأحوال. والإشكال الذي نشير إليه هو أنه أحد أهم الأسباب التي أدّت إلى غياب مؤسسات المجتمع المدني أو عدم إتاحة الفرصة لهذه المؤسسات من الوجود على الساحة السياسية الأردنية، فغياب أفكار مؤسسات المجتمع المدني هو الذي يجب أن يأخذ عناية البحث في تحليل الفكر السياسي الأردني من ضمن ما يأخذه، وليس الحرص على ما هو موجود من أفكار على الساحة السياسية الأردنية.

فلو نظرنا إلى الخريطة السكانية وتوزيعها لوجدنا أن محافظة إربد هي أكثر المناطق ازدحاما بالسكان، أي أنها تمثّل مركز الثقل للطبقات الوسطى التي تشكّل القوى الاجتماعية الأساسية على الخريطة السكانية، وبالتالي كانت بامتياز هي الإطار الاجتماعي المناسب والأكثر حضورا للدولة، أي أنها هي المنطقة التي سيظهر فيها ظهورا واضحا وأكثر من غيرها نتائج حجم ممارسات أصحاب القوة والنفوذ عليها، وهذه مفارقة مثيرة للتساؤل، فالأكثر كثافة عادة ما يكون قادرا على إفراز مؤسسات المجتمع المدني ومن ثمّ إفراز مراكز نفوذ ومصادر قوة أكثر من المناطق ذات الكثافات السكانية الأقل، ويزيد المفارقة وضوحا أن محافظة إربد بالإضافة إلى كونها الأكثر كثافة سكانية؛ فإنها الأكثر تحضّرا وتطوّرا من بقية المناطق الأخرى في الأردن، ولكنها في المقابل الأقل حضورا في تمثيل مراكز القوى في الأردن، لكن الذي يصدق عليها هو فعلا الأكثر قدرة على تقديم الخدمات التعليمية والصحية من خلال أعداد المعلمين والأطباء وأصحاب المهن الطبية المختلفة وغيرها للأردن بعامة، أي أنها المحافظة التي تقوم بإعداد الكوادر العلمية والصحية لإمداد وهل أقول لإعارتها لبقية المناطق، وكذلك أهلها هم الأقل ثراء وترفا بالنسبة للمناطق الأخرى؟ فمحافظة إربد هي التي تمثّل أكثرية الطبقة الوسطى، أي أن توفير القوى العاملة للأردن يتوقّف على محافظة إربد، ويفترض تبعا لذلك أن تكون هي المولّد الاجتماعي الذي يمدّ الدولة بالطاقة والقوة السياسية التي يحتاجها الأردن، بل يفترض أن يكون أبناؤها هم  منتجي القرار لا مستهلكيه.

جدل الواقع واللاوعي

 وحتى نتأكّد من صحة الواقع الذي نظرنا إليه من خلال فئاته أو أنماطه أو أنساقه، لا بدّ من أن نهتمّ كذلك بالبنية اللاواعية وغير المشخّصة للأفراد التي تفصح عن نفسها من خلال سلوك الأفراد والمؤسسات الاجتماعية التي يقيمونها داخل كل فئة، والعلاقات التي يدخلون فيها دون إرادتهم وهو ما يوضّح تمايز العلاقات بين تلك الفئات، كما يتمثّل أحيانا في قدرة هذه الفئة على التدخّل بين الفئات الأخرى في حال النزاع أو المناسبات الاجتماعية المختلفة، كما يظهر ذلك حين نرى بعض الفئات تحرص على دعوة شخصيات معينة لحضور مناسبات اجتماعية مثلا. إن ذلك يكشف عن أبعاد سيكولوجية وتاريخية تتغلغل إلى أعماق هذه الفئة أو تلك تظهر في سلوكها الاجتماعي ، وكل ذلك يدفع باتجاه التأكيد على تمايزها عن غيرها من فئات المجتمع المختلفة نظرا لمكانتها التاريخية أو الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية أو كل ذلك مجتمعا. ولتوضيح ذلك نقول إن الإنسان لا يبحث عن معنى الأشياء في العمل أو الفعل أو الممارسة، وإنما في القيم والمعايير والأعراف الاجتماعية التي تنظم العلامات والرموز التي تتكوّن منها الثقافة. ومعنى الأشياء يستقر إما في محور الموقف الاجتماعي الذي نرسم من خلاله الخريطة الإدراكية لوجودنا وحياتنا، أو في البناء العميق والدفين في المخيلة الإنسانية. وسبيلنا في الوصول إلى تفسير ما يدور حولنا هو فعل التواصل من خلال اللغة، وهذا يفسّر لنا أهمية اللغة والتفسي واللغوي في الكشف عن أسرار السلوك الاجتماعي، وتظهر بشكل ثنائية الخطاب والممارسة.

فالأعراف كنسق حضاري ما هي إلا نسق من الرموز المتفق على معانيها، مثل الوفاء والصداقة والاحترام، فهذه الألفاظ تعمل على توليد أمزجة أو حوافز في الناس للقيام بسلوك من القوة والقدرة على الإقناع والاستمرارية بحيث تتكوّن تصورات واعتقادات عن نظام الأشياء في الحياة لتظهر في الوعي الإنساني بشكل فريد لأنها جزء من بناء الممارسة والفعل. وبعد ذلك، يكتسب هذا النسق وجودا أو حياة قائمة بذاتها بمعزل عن الناس بل تهيمن على حياتهم وتنظّم سلوكهم. وما ينطبق على هذه الأعراف والمواضعات الاجتماعية ينطبق على مجالات الحياة الأخرى الثقافية كأنساق الدين والعشائرية والصراع والتنافس بين أشكال الثقافة المختلفة كالأدب والسياسة والاقتصاد مثلا. فذلك كله، عبارة عن بنيات اتصال مبنية على تبادل الرموز، وهي مستقلة عن التجربة الحياتية لأنها استقرّت في العقل الباطن أو في اللاشعور الداخلي للخطاب، أعني لغتها الخاصة ومعجمها. فسلوك شخص ما من خلال اللغة أو الممارسة في المجتمع ما هو إلا عبارة عن رسالة أو نمط  ذي مغزى للتواصل يكون متضمّنا من أجل إحداث التفاعل ليس تعبيرا عن التجربة المعاشة، وإنما تعبير عن الاحتمالات والتوقّعات والمحدّدات التي أقرها العرف بالمقارنة مع التجربة.

فالعرف، إذاً، مستقل عن الرسالة التي تنضح من العرف أو تأخذ معانيها منه، فهو يعتبر مخزنا من المعاني التي يستمدّ منه الفرد المعنى المناسب للرسالة التي يرسلها للآخر أو للمجتمع من خلال اللغة أو السلوك وهو أحد أشكالها. فالفرد بهذا يكون خاضعا لقانون الدلالة لأن العرف مستقل عن الفرد الذي أرسل الرسالة، لكن يكون للإشارت المرسلة معنى متفق عليه مسبقا بين الأفراد الذين يرسلون والأفراد الذين يستقبلون. فالحياة الاجتماعية السياسية مبنية على أعراف غير منظّمة لأنها تتقرّر في كل موقف اجتماعي، فكل إنسان لديه نزوع وميل نحو القوة والهيمنة، وهذا غريزة من الغرائز التي تمثّل كاملة القانون الطبيعي للأشياء، ولكنها لو تركت تمارس فعلها ونشاطها لعمّت الفوضى في عالم الإنسان، فتبعا لذلك، جرى السيطرة ولو جزئيا على نظامها الطبيعي بالأعراف والضوابط الاجتماعية المعروفة. فمن الممكن أن تقوم الدولة أو مؤسسات اقتصادية أخرى باتخاذ اجراءات للتخفيف من حدّة الفوارق الاجتماعية الناتجة عن الغلاء مثلا، إلا أن الدولة والمؤسسات الأخرى لن تقضي على ميل البشر الغرائزي أو الطبيعي للتميّز الفردي وحب الهيمنة والتسلّط على الآخرين. وهكذا نعود في دورة كاملة إلى مفهوم أو وجه آخر لمفهوم الطبيعة الإنسانية الثابتة.

 فالحياة الاجتماعية قائمة على عالم من الأعراف يطفو فوق عالم الغرائز والحاجات والقيود البيولوجية، والنزعة الجامدة واضحة في هذا العالم، إنه أشبه بعالم بلاستيكي اعتباطي مصطنع أساسا لا يتبع قوانين منظّمة، ألسنا نلاحظ أنه عالم مغرق في إنتاج السلع والسعي المحموم نحو جمع المال وما ينتج عن ذلك كله من تسلّط وهيمنة وقهر؟ أليس هذا يجعل الإنسان يعيش في حالة من الاغتراب في مجتمع فُقِدت السيطرة عليه أو كادت، أو فَقدت أفعال الإنسان مضمونها الاجتماعي وانقطعت عن جذورها التاريخية والواقعية أو قل أليس هذا يدل على أنه أصبح أوكاد يصبح لكل فرد عالمه الخاص بأعرافه وتقاليده غير آبه بتلك الجذور التاريخية من هذه الأعراف وكأننا أصبحنا في عالم جديد يصنع فيه الإنسان كل يوم ما يحتاجه من محددات وأعراف حسب ما تتطلّبه حاجاته المستجدّة كل يوم؟ أليس هذا يدلّ على أن كل إنسان قادر على أن ينشئ تاريخا متجدّدا خاصا به منقطعا عن توالي الزمن، وكأنه خارج مقولة إن الإنسان حيوان له تاريخ؟ بل ألسنا في عصر إنتاج اللغة المبتذلة الخاصة بحديثي النعمة وهم يقذفون بلغتهم الرخيصة وأنماط الكلام في علاقاتهم الاجتماعية تعبيرا عما يعتقدون أنه يؤكّد الهيمنة الاجتماعية من خلال الهيمنة الاقتصادية؟ فعلاقات الذين يشغلون مواقع القوة والهيمنة في المجتمع أو الذين يعتقدون أنهم يشغلون هذه المواقع غالبا ما يتّصف هؤلاء في معاملتهم مع الأقل مكانا ومكانة بالعدوانية والاستخفاف مما يزيد من التوتّر ولو بصورة خفية في العلاقات بين الطرفين، وبالمقابل فإن الأفراد الذين يشغلون المراكز الأقل في علاقات القوة يكون سلوكهم دفاعيا يهدف إلى التقليل من التوتّر الذي يصاحب هذا التباين في العلاقات ولو في شكله العلني، لذلك نراهم يشعرون بالميل ظاهريا نحو أصحاب تلك المراكز والمكانة الأعلى وإن كانوا في حقيقتهم يشعرون نحوهم بالاستخفاف والاشمئزاز، ويبالغون في تقدير ميل أصحاب هذه المراكز نحوهم. أليس هذا يشير إلى محاولة فرض مسلّمات جديدة أو خلق بنية ثقافية تحتية في المجتمع أو خلق ثقافة خاصة بهم على أقل تقدير على حساب صدقهم مع أنفسهم ومع غيرهم؟ أليس مغزى ذلك كله يهدف إلى أن يبقى كل في موقعه؟ هل نخلص إلى أنهم يعانون من السادية والمازوخية على السواء أو ما هو قريب من ذلك؟ أليسوا يتلذّذون برؤية الآخرين يتقرّبون إليهم تعبيرا وتعويضا عن حرمانهم مما في أيدي هؤلاء؟ أليسوا يتلذّذون بتعذيب أنفسهم وهم يقومون بالمقارنة بين حالاتهم وهم في الحرمان وحالاتهم الجديدة التي انتقلوا إليها؟ أليسوا يعيشون حالتين متناقضتين في أنفسهم من خلال حالة الفقراء التي تمثّل حالاتهم السابقة وحالاتهم المستجدّة التي يجدون لذّتهم فيها من خلال عدم توفرها عند غيرهم؟ ألا يمكن أن يتجاوز ذلك الأشكال المادية للحياة إلى الأشكال السياسية ومواقعها وبخاصة أن الكثيرين من أصحاب الهيمنة والنفوذ السياسي لا يشغلون مواقعهم بكفاءة واقتدار؟ ألا يشي ذلك إلى المسكوت عنه بأن الفساد والمحسوبية هو ما أوصل كثيرين إلى ما هم عليه من ثروة وغنى وجاه لا يعبر عن قدراتهم وكفاءاتهم؟ أليست رسالة جلالة الملك لرئيس الوزراء في 22.3.2011 بأنه لا عذر لمن يقف في طريق الإصلاح وفي طريق القضاء على الفساد؟

ثقافة على السلوك

فالأسباب التي يقدمها هؤلاء أو بعضهم تفسيرا لسلوكهم تختلف عن نتائج هذا السلوك بالنسبة للنسق الاجتماعي او النمط الذي يريدون لأنفسهم أن يكونوا فيه، ويمكن بسهولة ملاحظة هذه النتائج أو الأهداف التي تكمن وراء سلوكهم. فهذه الفئات تحرص مثلا على ركوب السيارات الفخمة والفارهة، كما أنها تحرص على ارتداء الملابس ذات الماركات العالمية أو استخدام الأثاث الفخم وتغييره من وقت لآخر بغض النظر عن صلاحيته، فهو على الأغلب ما زال في حالة جيدة، وهذا في حقيقته نمط ثقافي يتظاهر فيه أصحابه بأنهم يمثّلون ثقافة الصفوة التي تنشر العذوبة والسلاسة، ويمكن وصفها وتصويرها على أنها وسيلة للهيمنة الاجتماعية متخيلين أن هذا النمط يضعهم ضمن طبقة الصفوة هذه التي تكمن فيها قيمة الثقافة الرفيعة، وبالتالي، فإن هذا يمنحهم القدرة على تقييم الأفراد وتمييزها. وهذه القدرة نفسها تعبّر عن امتياز اجتماعي وثقافي ممثّلا في قدرتهم على ممارسة القوة والنفوذ السياسيين. وربما كان هذا أحد العوامل المهمة المسؤولة عن هذه الحواجز والحدود التي تؤكّد رغبتهم في أن يبقوا بعيدين عن الاختلاط المباشر مع فئات المجتمع المختلفة أو الاختلاط بهم بمقدار تبعا للضرورات الاجتماعية المختلفة. فهم يصرّون على تفرّدهم واختلافهم عن الآخرين، فإذا تمكّن أحد أفراد هذه العشيرة أو تلك من أن يتقلّد منصبا رفيعا في الدولة نراه ينزع إلى وضع الحدود والقيود على اختلاطه مع غيره حتى مع أفراد فئته أو عشيرته ليحافظ على تميّزه وفرادته. كما أنهم ينزعون إلى النظر إلى أعراف الآخرين على أنها بشعة ومخزية وإلى أصحابها على أنهم متخلّفون وبدائيون. فربما كانوا يحرصون على هذا الانعزال حماية لأنفسهم من أن تنكشف حقائق تكوينهم الثقافي ورؤيتهم المتواضعة لحقائق الحياة السياسية والاجتماعية لأنهم لا يعرفون الثقافة إلا بالبقاء في أنفسهم، ولأن الفهم عبر ثقافات الآخرين خارج نطاق استيعابهم ويبدأون في القلق عمّا إذا كانوا قد هبطوا في مجتمع يستحق الوصف بصعوبة لأنه مألوف وعادي إلى حدّ مزعج، فيبقون مسجونين في ثقافتهم وتصوّراتهم، مع أن الإنسان مسجون خارج نفسه ويتحصّن بالتفاعل مع غيره.

وينطبق هذا على مسلكياتها في مناسباتها الاجتماعية المختلفة كاختيار صالات معينة أو فنادق فخمة في احتفالات الزواج أو اختيار المطربين المشهورين لإحياء هذه الحفلات ويقتصرون في توجيه الدعوات لفئات معينة تعبّر عن رؤية مشتركة معهم للمجتمع. إن أساس هذه المسلكيات هو في الأساس نزوع المجتمع نحو ما يمكن أن نسميه بثقافة الاستهلاك لفئات المجتمع المختلفة التي تتميّز بانتشار التعليم المجاني المنظّم والتأثير البالغ للفضائيات بخاصة ووسائل الإعلام بعامة. فمثل هذه المؤثرات أدّت إلى طغيان الاستهلاك الكمالي الذي يجسّد طابع المتعة على حساب المتطلبات الإساسية لحاجات المجتمع للتعليم الجامعي في ظلّ ارتفاع تكاليفه وفي ظلّ تراجع مستوى الدخل بفعل ارتفاع الأسعار وتكاليف المعيشة وانتشار البطالة، أقول إن ذلك أدّى إلى تراجع القيم الاجتماعية الأصيلة التي كانت سائدة في السابق، وخلق نوعا غريبا من الثقافة الاستهلاكية في ظل غياب يكاد يكون كاملا لوزارةة التنمية السياسية التي لا نرى لها أثرا.

إن شيوع مثل هذه الثقافة الاستهلاكية المشتركة أوجد هذا التشابه الكبير في أنماط المعيشة والحياة وفي الأذواق العامة وفي الاتجاهات الاجتماعية نحو السلع التي هي الصفة المميزة للثقافة الاستهلاكية. تستطيع أن تلاحظ مظاهر هذه الثقافة المشتركة في لباس الناس حيث يلبسون حسب متطلبات الأزياء الحديثة أو على الموضة التي تتغير بانتظام حسب الصيحات العالمية والصرعات التي يتابعها الشبان والشابات من خلال الفضائيات وعروض الأزياء، كما يمكن أن تلاحظ بسهولة هوس أغلب عامة الناس في اقتناء سلع متشابهة والحرص المفرط على أن تكون من ماركات متشابهة وعالمية مع ما يصاحبها من آراء وعادات غريبة. فأصحاب الهيمنة الاقتصادية لم يعودوا يعتمدون على القيمة الاستعمالية لسلعة ما، أو كيفية الانتفاع بها أو في تسويقها، وإنما يعتمدون، باستعمال الإعلان من خلال وسائل الإعلام، على إعطاء مغزى ودلالة إيحائية للسلع بشكل عشوائي، وهذا المغزى يتصل بصفات مرغوب فيها في المجتمع كالثقة بالنفس والفحولة والحب والنجاح في الحياة وغير ذلك، وهكذا، فإن نوعا معينا مثلا من العطور أو من مزيلات الرائحة تمنح الثقة بالنفس، والمشروبات الغازية تصبح السبيل إلى التمتّع بالحياة والسيارة السريعة هي المفتاح لأسر قلوب الناس، ونوع سيجارة معينة علامة على الرجولة وتناول شراب معين لا يتمّ إلا في صحبة طيبة وملابس معينة أو عطرا معينا علامة على الأنوثة والنعومة والمجوهرات علامة على الحب. وفي تحليلنا لمثل هذه المظاهر أو الظواهر، أليس ذلك يدل على أنهم يحرصون في الأساس من خلال ذلك على اقتناء أو استعمال ما يدلّ على مركز اجتماعي أعلى مما يشغلونه فعلا وعلى مستوى وطراز معيشة غير متيسّر لهم في الواقع بأشكال يمكن ردّها إلى الحرمان النسبي؟ أليس يدل هذا على التباين الكبير بين أسلوب حياة هذه الطبقات وواقع المجتمع الأردني الذي يعاني من الفقر والبطالة؟

وكذلك، لنلاحظ أن الجماعة أو الجماعات المرجعية لعامة الناس لم تعد أبناء الذوات وأبناء الأعيان وأهل الحسب والنسب وهي التي كانت سائدة في السابق، وإنما أصبحت الجماعات المرجعية ذات صلة بالمراكز الوظيفية وبالأغنياء حديثي النعمة من تجار الأراضي والسماسرة وقابضي العمولات وغيرهم. ولكنك حين تختلط بهم وتعاشرهم أو تناقشهم في الشئون الاجتماعية والسياسة والثقافية المختلفة تجدهم في أغلبهم لا يزيدون عن وجود مصطنع ملؤه التيه والتضليل وأكاد أقول الضياع، إن مسلكياتهم تدلّ على استعراض وطلاء اجتماعي تكوّن من مواد تجميلية لا تعطي جمالا طبيعيا ذا صبغة أصيلة تعطي حسّا لا بالمسئولية الحياتية نحو الأسرة ولا نحو المجتمع لأنه مفرغ من أي مضمون وطني أو تراثي أوتاريخي أو إنساني ، فكان سريع الانكشاف وسريع الوضوح في الادّعاء.

وإذا ما واصلنا التحليل بصورة أعمق لنرى مدى تأثيره في تعميق دور مراكز القوة والنفوذ في المجتمع وتجييرها المكاسب المادية لصالحها وليس لصالح الطبقات الفقيرة أو متوسطة الدخل التي لا تقوى على توفير الأقساط الجامعية لأبنائها، وبالتالي تجعل من هذه الشريحة الواسعة سلبية ومستسلمة استسلاما كليا لها ولتطلّعاتها والنظر إليها على أنها الأرفع شأنا ومكانة. أقول في هذا السياق، إن تلك القوى هي عامل مهم في إدخال الثقافة السلعية وتحويلها إلى طابع رمزي للسلع المنتجة ذات الطابع الكمالي في أذهان الشرائح الاجتماعية المختلفة والتي أصبح المجتمع لا يستطيع الاستغناء عنها لأنها اتّخذت طابعا اجتماعيا، فأصبحت ثقافة استهلاكية ذات بعد أساسي في ثقافة المجتمع، أي كعقلية عامة سائدة تمثّل روح العصر. ولذلك فجميع هذه النشاطات يجمعها قاسم مشترك وهو تعظيم الدخل لكي يزيد الجزء المخصّص منه للاستهلاك الكمالي وإشباع الحاجات الثانوية للسلع – الرموز والتي تتحوّل بمرور الزمن إلى حاجات أولية متخيّلة. فعندما تصل الأسرة إلى الاكتفاء الذاتي في الحاجات الأساسية من مأكل وملبس ومسكن نرى متطلبات جديدة كضرورة التعليم الجامعي للأبناء طمعا في الحصول على وظيفة مثلا بالإضافة إلى الحاجات الكمالية، كل ذلك يتحوّل إلى خلق حاجات متخيّلة وتكوينها. ولذلك فقوى الهيمنة تلجأ إلى الإشارات بدلا من الرموز، أقول إن هذا الطابع الرمزي يدخل عنصرا ديناميكيا في هذه الرموز والصور الذهنية المتخيلة في صراع الفرد والجماعات من أجل تحقيق أصحابها لمصالحهم الخاصة وهو ما يوقعهم في المزيد من السلبية والرضوخ أكثر لأصحاب القوى والنفوذ والهيمنة.

 فالآثار السياسية الناتجة عن ثقافة الاستهلاك لا تتوقّف على اعتبار الجانب المادي للسلع هو المقصود لذاته من حيث جني الآرباح من خلال مراكز التسوّق الكبيرة والمتوسّطة، وإنما تتجاوز هذه الآثار المادية إلى هيمنة ثقافية تصبح هي الأخرى قابلة للبيع والشراء عن طريق تحويل السلع إلى علامات وصور ذهنية مرتبطة بمن يوفّرها للآخرين أو بمن يمتلكها كذلك مما يجعلها تتحوّل إلى صور ذهنية أخرى، فيصبح الأثرياء وجهاء في المجتمع وفي السياسة وفي الرأي وفي الشكل ينتظرون من شرائح المجتمع أن يقدّموا لهم الطاعة والتبجيل والانحناء. فظهورهم في وسائل الإعلام وفي مناسبات المجتمع بملابسهم وبسياراتهم الفارهة وبتبرّعاتهم محدودة الفائدة وبوجوههم التي تصطنع الوقار والتواضع للإيحاء بأنهم قادرون على تقديم الخدمات، ذلك كلّه أدوات لتوزيع هذه الصور الذهنية المتخيّلة لثرائهم ولتوزيع الإيحاء بطرق استعماله. فهذا السعي المحموم لاقتناء السلع المادية وما يتطلبه من المحاولات المستمرة لزيادة الدخل والاتصال أو قل اقتناء رموز هذه السلع في قلوب شرائح المجتمع وما يتطلبه من التذلّل والتقرّب إلى هذه الرموز السياسية والاجتماعية يؤكّد تسلّط مراكز القوى والنفوذ المختلفة وهو امتداد لمصادر القوة والنفوذ السياسي الذي تمارسه الشخصيات النافذة في أجهزة الدولة المختلفة. ولنلاحظ مثلا أن الكثير من هذه الرموز أو من أدعيائها، وهم قلة بالقياس إلى حجم عشائرهم ، تجدهم يقطنون في العاصمة عمّان، وهذا علامة أخرى على ادّعائهم بوجاهتهم في الرأي والقوة، أقول إن أغلب هؤلاء لا يزورون مناطقهم الريفية إلا في المناسبات، وتجدهم يريدون طرح أو لنقل فرض تصوراتهم على غيرهم في التوجهات الاجتماعية أو السياسية، كيف لا وهم قاطنو العاصمة بمزايا ذلك بأثاث بيوتهم وسياراتهم وملابسهم؟! أليس هذا من تأثيرات البيئة الحضرية في إضعاف الروابط أو العلاقات الاجتماعية الأولية بحيث تنقطع جذور هذه الرموز أو من يظنون أنهم رموز مع الجماعات المحلية الأصلية مع عدم وعي أو بوعي هذه الرموز التي تحدّثت عنها؟ أليس في مثل هذا يكمن سعي فئات المجتمع المختلفة للتكيّف مع هذه الأوضاع المستجدة تحدث الاستجابات المتناقضة في العودة إلى الأشكال والصيغ المؤسسية المتخلّفة كالعشائرية والإقليمية والجهوية والفئوية؟

أليس كان من المفترض في ظلّ تطوّر التعليم وتقدّمه وفي ظلّ المعلوماتية والفضائيات أن تنشأ علاقات اجتماعية جديدة وأن تنقرض مثل هذه الصيغ الضيقة؟ أليس ذلك كله يكرّس هذه الصورة الأبوية للنظام السياسي الذي يمتدّ ويسري على جميع مستويات التنظيم الاجتماعي من العائلة إلى مؤسسة الحكم زارعة أو مرسّخة هيمنة الرجل على المرأة والرجل على جميع الرجال في تراتبية أو تسلسلية رهيبة واستغلال شامل. الكل يستغل الكل ولكن على درجات تتناسب مع الموقع الاجتماعي والسياسي ومستوى السلطة وحجم القوة والنفوذ المتاحين؟ وكذلك الكل يحفظ ماذا قدّم للآخر أيضا في هذا التسلسل في العلاقات المادية المبنية على تبادل المصالح والخدمات التي تسود العلاقات الاجتماعية والسياسية. إن هذا النمط من العلاقات يمثّل عائقا لانتظام حياة اجتماعية واقتصادية، فأغلب الإجراءات والأعمال والمعاملات الرسمية والتجارية لم تعد تتمّ بالطرق الاعتيادية وإنما تتمّ بطريق تبادل المصالح بين الأقرباء والأصدقاء وأبناء العشيرة وما يجيّره أصحاب النفوذ والقوة لصالح من يريدون أي بتقديم أصحاب العصبة على أصحاب الكفاءة بالتعبير التراثي، ويضاف إلى ذلك أن أساليب التوظيف والترقّي في السلّم الاجتماعي والمكانة والثروة لا علاقة لها في الأغلب بالمجهود الشخصي للفرد وكفاءته أو للجماعة التي ينتمي إليها، وإنما تتمّ بطريق الزمالة والكفالة السياسية. وفي كلتا الحالتين يتعهّد ولو ضمنيا أصحاب القوة في أجهزة الدولة بعض الأفراد والجماعات ويتبنّونهم مقابل تقديم الخدمات والولاء عندما يتنحّى هؤلاء ويتقدّم أولئك في السلّم السياسي والاجتماعي.

ثقافة بالسلوك

وعند التفكير في أنماط حياتهم وتحليلها كأطر تفسيرية لهذه الظاهرة في مسلكياتهم نرى أنهم يحاولون إعطاء ثقافتهم هوية خاصة تدلّ عليهم من خلال سلوكهم الاجتماعي، وأكاد أقول تحويل الهوية الوطنية إلى هوية بنية ثقافية من خلال ثقافتهم هم لا من خلال الثقافة العامة للمجتمع لأنهم يدّعون بأنهم هم أصحاب الحق في إعطاء الثقافة الوطنية والاجتماعية شكلها الذي يرونه، فعندئذ والحالة هذه؛ تمنح الثقافة الشخص هويته بل وشرعية وجوده المتميّز وطنيا واجتماعيا وسياسيا، في حين أن الثقافة الحقيقية دائما هي الجسر الذي يربط الأفراد بهوياتهم الوطنية، فتراهم تبعا للهوية الثقافية الرخوة والهشّة فاقدين للقدرة على التكيّف الخلاق الذي يسمح لهم بالادّعاء بأنهم الأحق بإدارة شئون المجتمع أو إشغال مواقع متقدّمة، لأن تميّزهم الاقتصادي أو السياسي الذي أتاح لهم هذا السلوك المترف لم يعبّر عن رؤية استراتيجية اجتماعية تقوم على ذوبان الفرد لصالح الآخر. وبمقدار ما يتحقّق هذا الذوبان يكون صاحبه جديرا بتمثيل الآخر. ونحن لا نرى شيئا من ذلك في أغلب مسلكيات هؤلاء.

فالوظيفة الكامنة لمسلكياتهم في ذلك كله؛ هو إظهار الهيبة والمكانة والتميّز عن الآخرين في المرتبة الاجتماعية وغيرها مستغلين حالة فئات المجتمع الخالية أو تكاد من هذه الامتيازات الاقتصادية التي لا يقوون على توظيفها بما يعكس وجود عشائرهم التاريخي والاجتماعي وإنما يعكس وجودهم الفردي كأشخاص ورغباتهم في إثبات الذات.  وحتى في سلوكهم ذي المغزى السياسي كما يبدو في الانتخابات النيابية؛ نلاحظ أن هذه الفئات تقوم بوظيفة محدّدة هي اجتذاب الناخبين بالانفتاح النسبي على الناخبين والمحافظة عليهم بإغراءات مادية أو وظيفية لا تقدمها لهم الدولة، أي أن هذه الفئات تقول لهم بأنها تستجيب لطلباتهم التي لم تستجب لها الدولة، وهو ما يمكن أن نفهمه على أنه نقد كامن منهم لقصور الدولة في أدائها والقيام بواجباتها نحو مواطنيها، وهذا يرسّخ دور هذه الفئات بأنها أرفع مكانة وشأنا اجتماعيا من غيرها وأنها ذات نفوذ على المستوى الرسمي أو أن حصولهم على متطلباتهم من الدولة لا يتمّ إلا عبرهم وبهم. أليس يدلّ هذا على أن هناك نظرة شكّ وارتياب في حقيقة الأسس والمعايير التي تسّير فيها الدولة شئون الناس وأن للدولة رجالاتها الذين يضعون مصالحهم فوق اعتبارات المواطنين، ثمّ أليس هذا يشير بصراحة إلى أن هناك مراكز قوى ونفوذ لا تنظر إلى فئات المجتمع المختلفة بدرجة متساوية؟

كان ما سبق وصف أو محاولة لوصف الواقع الاجتماعي السائد أو بعض أوجهه التي يمكن ملاحظتها ورصدها، ولكن هناك سبب آخر يحتاج إلى تحليل أعمق، ونعني به الجانب الاقتصادي لفئات النخبة وأصحاب النفوذ. فهم من جانب انتقلوا من حال الاقتصاد المحدود إلى حال الاقتصاد المفتوح، فهل انتقل تفكيرهم وثقافتهم السياسية إلى طور جديد يتلاءم مع حالتهم الاقتصادية الجديدة أم بقيت ثقافتهم وتفكيرهم السياسي يشبه تفكير الفقراء والذي تغيّر هو أنهم أصبحوا أثرياء اقتصاديا لا سياسيا وثقافيا؟ ونحن نشير هنا متعمّدين إلى الثقافة السياسية لأنها تحدّد درجة الإحساس وتنوّعه، وتنظّم المواقف وتحدّد طرق الالتزام الفردي وأساليبه، فهي عامل مهم في اللعبة السياسية لكونها تضبط المبادلات وتحدّد أنماط المشاركة والاتصال وواجبات من يمثّلون الدولة. فالتطوّر الاقتصادي الذي يصيب الأفراد مرهون مباشرة بطبيعة المعايير التي يتلقّاها الأفراد من خلال عملية التنشئة الاجتماعية. فالثقافة الأسرية والاجتماعية تعدّل سلوك الأفراد السياسي وبالتالي النظام السياسي نفسه، وبالمقابل فإن النظام السياسي نفسه يطبع الثقافة أيضا ويعطيها ألوانه.

وإذا حصل هذا التناغم بين التنشئة المجتمعية والسياسية وأصبحا متطابقين ومتوازيين فإننا نكون نتحدّث عن ثقافة عضوية تفعل فعلها في الجانبين معا، الثقافة في تطبيقاتها المختلفة وشكل المجتمع وهيكله وتقدّمه. فهذه الفئات ذات الثراء أصابها التعليم الحديث إداريا وتكنولوجيا بمقدار كبير لكنها ما زالت تعيش في مسلكها السياسي حالة التنشئة الاجتماعية التي لا تختلف عن مسلك الفقراء. أي أن عمليات التحديث التعليمي والإداري والتكنولوجي منذ عهد التنظيمات إلى عهد الدولة الأردنية الحديثة خلقت وضعية جديدة تتّسم بالازدواجية الثقافية. لقد أقيمت المؤسسات إلى جانب الثقافة الأصلية لا في قلبها وصميمها، وانحاز جهاز الدولة الحديث إلى المؤسسات الجديدة معتمدا على تطوّرها في تحقيق تطوّره هو، بينما اكتفى جهاز الدولة بتملّق مؤسسات الثقافة الأصلية التي تركت للجمود والتخلّف. وقد كاد هذا أن يتحوّل إلى ما يشبه آيديولوجية اجتماعية لإضفاء الشرعية على مؤسسات الدولة من خلال ما يفرضونه على توزيع السياسات والمناصب العليا وبات لا يقوى أحد أن يرفع صوته، وأصبح الكثيرون من الناس يعتقدون أن شرعية هؤلاء أقوى من شرعية الدولة أو أن شرعية الدولة تمرّ عبر شرعيتهم. فنظرا إلى قوة هؤلاء ونفوذهم كانت زعاماتهم الفردية أحد أهمّ العوامل في تهميش المؤسسات وضآلة اعتقاد الناس بشرعية القوانين والنظم، بل وأصبح الولاء والانتماء إليهم يتقدّم على الولاء للدولة. وربما أصبح أبناء عشائر هذه الرموز يعودون لرموزهم ويتطلّعون إليهم لتعبئتهم وشحنهم وإعادة ترتيبهم بما يخدم مصالحهم في التعبير عن الوجود ملاقين منهم العون في ذلك من قبل هذه الرموز، فأصبح تحديد الهوية لا يكفي بأن تنتمي للدولة بل لا بدّ من أن تعطي بيانا وتعريفا أبلغ بأنك تنتمي لهذه العشيرة أو تلك أو لهذه المنطقة أو تلك مثلا، مما أضعف الوظيفة الأساسية للسلطة العامة في إنماء الثقة المتبادلة داخل الكل الاجتماعي، وبالتالي ساعد على غياب الثقة في وجه بناء المؤسسات العامة وازدهارها.

وبما أن الثقافة الوافدة وُظّفت لإزاحة الثقافة الاجتماعية الأصلية وتصفيتها؛ فإننا نجد أنفسنا إزاء مجتمع تعوزه الثقافة العضوية، لأن القيم الجديدة لا تعكس هي الأخرى طموحات المجتمع ولا تتأثّر بتناقضاته، وإنما تحاول أن تغيّر السلوك والذوق والتعبير حتى يصبح المجتمع مطابقا للمنطق الجديد الذي هو في الحقيقة منطق فئات وجماعات منفصلة عن قيم غالبية المجتمع ومرتبطة بقيم وأفكار وأنماط حياة خارجة عن مجتمعها، ونتيجة لذلك كان لا بد من أن ينظر إلى هذه الفئات نظرة ملؤها الشك والريبة، وبقي هؤلاء في عالمهم الجديد، وحقيقته عالم قديم لا يعكس قيما جديدة إلا من حيث شكل ملابسهم وأثاث منازلهم، ولكنهم من حيث شكل عالمهم الداخلي لا يختلفون عن غالبية المجتمع في أساليب التفكير وأنماطه ، فطبيعة الحياة وشكلها الذي يظهر في مسلكيات هذه الفئات يفتقد، من ضمن ما يفتقد، الثقافة العضوية التي تعكس عبر رموزها الاجتماعية بصفة فعلية وبطريقة مباشرة، أي أننا في وضعية انشطار في الثقافة والاقتصاد والقيم، أو لنقل إن المجتمع نفسه في حالة انشطار سياسي عميق باعتبار السياسة تلخّص الحالة العامة للمجتمع.  

وانطلاقا من ذلك كان سعينا في هذا البحث الإشارة إلى واقع الأحوال والظروف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في محافظة إربد بخاصة - بوصفها ذات الكثافة السكانية الأوسع انتشارا - وتأثيرها في البنية السياسية الأردنية، وتأثير هذه البنية كذلك في أنساق الحياة الاجتماعية في هذه المحافظة مع التركيز على الظواهر الاجتماعية غير الرسمية أكثر من تركيزنا على البنية السياسية الأردنية، مع أننا أعطينا تأثير الجانب السياسي حقه في هذه الظواهر الاجتماعية نظرا للصلة المتينة بين الجانبين الاجتماعي والسياسي؛ مع إشارات مركزة لأشكال الحياة الاجتماعية الأردنية ومدى دور هذه الأشكال في وضعها في مكانة بعيدة نسبيا عن مراكز النفوذ أو جعلها قريبة منها. ويعود سبب تناولنا إلى البنية السياسية وتأثيرها في أنساق الحياة الاجتماعية إلى صعوبة الفصل بين السياسي والاجتماعي، كما سبق أن أشرت، لأنه يستحيل فهم الظاهرة الاجتماعية أو السياسية بحصر الدراسة في أحد الجانبين دون الآخر وبخاصة في مجتمعات العالم الثالث التي لا تكون فيها المؤسسات السياسية والقانون السياسي أو الدستور إفرازا طبيعيا لواقع المجتمع، بل تكون أجهزة مفروضة ومقحمة على البنية الاجتماعية في أغلب الأحيان، وتبعا لهذا، فإن العلاقة هنا تكون بينها وبين المجتمع علاقة اغتراب وعدم ارتياح. فالانفتاح على الشعوب استدعى ضرورة وجود القانون والدستور، لكن الانفتاح نفسه يعني الحاجة إلى تغيير القوانين وتجديدها كي تتقبّل المجتمعات نفسها هذه القوانين، وبالتالي حتى تتقبّل المجتمعات الأجنبية هذه القوانين التي تحكم علاقات المجتمعات والدول مع بعضها. فصحة العلاقات الخارجية تتوقّف هي الأخرى على سلامة البنية الاجتماعية التي تحدّد هي الأخرى شرعية النظام السياسي الأردني في نظر المجتمع الدولي.

الثقافة الغائبة

ومن الملاحظ في بعض شعوب العالم الثالث، والأردن أحدها، أن القوى الاجتماعية كالنقابات وجماعات الظغط والنخب السياسية الشعبية والجمعيات وحركات الاحتجاج تكاد تكون غائبة، وهو ما نلاحظه لبعض العلاقات القبلية والعشائرية التي تشكل نسيجا مهما في أنساق البنية الاجتماعية الأردنية، في حين تتواجد تلك القوى وجماعات الضغط والنفوذ الصامتة من خلال شخصيات تاريخية أو اقتصادية تفرض وجودها على البنية السياسية الرسمية في الأردن دون أن تعطى مؤشر الظهور بشكل واضح تجنبا للاحتجاج العلني مع أنها تتمتع بقوة كامنة تظهر آثارها الاجتماعية وقل السياسية في أوجه الحياة الاجتماعية، وهذه القوى لا نكتشفها إلا داخل البنيات الاجتماعية، وهي في الأغلب تكمن في ثقافة المجتمع نفسه ومعتقداته أكثر مما تظهر في أدبيات البنية السياسية الآردنية الرسمية التي تمثّلها الأسرة الهاشمية التي تتمتع باحترام فئات المجتمع الأردني بعامة.

وإذا كان بعض علماء السياسة يذهبون إلى أن السياسة لا تفهم إلا من خلال الدولة، فإن الدولة نفسها، هي في الأساس؛ منبثقة من المجتمع حتى وإن كانت تمارس تسلّطا عليه، وربما كان من الملاحظ أن الدولة الرسمية في الأردن هي التي أوجدت المجتمع بالمعنى الحديث وليس العكس، فالدولة الأردنية قد رأت النور أولا بقرار سياسي بريطاني جاء تحت ضغط نضال الأسرة الهاشمية بالثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين  وليس نتيجة لصراع قوى تاريخية محلية، لأنه لم يكن هناك قوى سياسية واقتصادية يمكن أن تساهم بأي دور، وإن هذا النفوذ السياسي والاقتصادي الذي نراه قد تمّ فيما بعد، أي بعد ولادة الدولة الأردنية التي هي في الحقيقة نتيجة لما قامت به الأسرة الهاشمية من جهود من أجل وجود سياسي عربي على الساحة الدولية في بدايات القرن العشرين انطلاقا من أرض الحجاز وانتهاء بالأرض المعروفة الآن باسم الأردن، وهو ما أتاح للوضع السياسي الجديد أن يسمح بإيجاد مجتمع الدولة، وعلى ذلك كانت الدولة فكرة أولا جرى تطبيقها على أرض الواقع ثم تحوّلت إلى مفهوم سياسي على شكل إمارة ثمّ دولة يقودها الهاشميون وحظيت برضى فئات المجتمع المختلفة فيما بعد، وليس من مهمتي هنا أن أقوم بتتبّع تاريخي لتحوّل الأردن من حالة الإمارة إلى حالة الدولة كما هو الحال الآن. وعطفا على الحالة الأردنية سواء كانت في حالة الإمارة أو في حالة الدولة؛ فإن مؤسسات الدولة التنفيذية هي جزء من المجتمع الذي أخذ يدين بالولاء للأسرة الهاشمية الرسمية التي أولت اهتمامها ورعايتها للمجتمع على وجه طيب.

وسأنطلق من مؤسسة الديوان الملكي باعتباره ألصق الأجهزة بالملك وهو مؤسسة وطنية بامتياز، وربما جاز أن ننظر إليه على أنه خارج السلطة التنفيذية للدولة، بل إنه يعتبر المطبخ السياسي والاجتماعي وقل الاستراتيجي للأردن، وهذا هو السبب الذي جعلني أبدأ بإلقاء نظرة سريعة على ما تقدمه الأسرة الهاشمية من خلال مؤسسة الديوان الملكي، وهذا غير ما تقوم به الحكومة بالطبع نحو فئات المجتمع على مستوى الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها، إن ذلك يؤكّد على أن الأسرة الهاشمية تنظر إلى المجتمع نظرة يملؤها العطف والرعاية وهي أقرب إلى نظرة ربّ الأسرة منها إلى واجب الدولة كمؤسسات نحو المجتمع أو أنها تمزج بين الواجب الرسمي والخاص وأن الملك ينظر للدولة على أنها البيت الأردني، وكثيرا ما نرى في أدبيات السياسة الأردنية مصطلحات باسم إعادة ترتيب البيت الأردني. ولعل في هذا ما يوحي بأن نظام الدولة الأردني في بنيته الداخلية هو أقرب إلى نظام البيت الخاص الذي تربط أعضاءه ببعضهم رابطة أسرية أكثر مما هي رابطة مجتمع بالدولة، كما أنه ربما يوحي بأن الأسرة الهاشمية تحسّ بأن أداء الحكومات المتعاقبة نحو المجتمع هو جزء من مهمة متممة لمسئولية الملك نفسه وليس أن مهمة الملك متممة لمهمة الحكومة، وهذا بدوره قد يوحي – بحق - كذلك بأن أداء الحكومات أقلّ من طموحات الملك أيضا، ولعل كثرة تغيير الحكومات ما يشير إلى أن جلالة الملك يتابع اداء الحكومات متابعة حثيثة وأنها لا تحقق طموحاته.

وإلا لو كان الأمر غير ذلك، لماذا يتدخّل ويلاحظ عبر جولاته الخفية وغير الخفية على بعض المؤسسات الخدمية ليطلّع على أدائها، فالسؤال هنا، لماذا لا يقوم الوزراء بهذه المهمة وهي في صلب واجبهم، وكلنا يتذكّر أن هناك وزارة اسمها وزارة تطوير القطاع العام وما هو التطوير الذي أنجزته، فالأداء العام في معظم أجهزة الدولة التنفيذية دون المستوى المطلوب وتعامل الموظفين مع المراجعين يتّسم بالتعالي ولو كانت أجهزة الدولة التنفيذية تقوم بواجبها على الوجه الأكمل أو لو كان الملك مطمئنا لأدائها لما كان هناك داع ليقوم بما يقوم به من جولات خفية من وقت لآخر، وهو في واقع الأمر لا يستطيع أن يتابع كل صغيرة وكبيرة. والمهم في سلوك الملك والأسرة الهاشمية هو معرفته التامة بطبيعة علاقات أجهزة الدولة بفئات المجتمع المختلفة، وأنه على معرفة بمراكز القوى والنفوذ.  ثم إذا كانت الحكومة تقوم بواجباتها نحو المجتمع على الوجه الأكمل والعادل، فلماذا يقوم الديوان الملكي بأداء بعض الخدمات الصحية والتعليمية مثلا؟ إذاً، المسألة هنا تتعلّق بإبقاء المجتمع مشدودا بالأسرة الهاشمية الثابتة وليس بالحكومة المتغيرة، وهو ما يعني المحافظة على ترسيخ الأسرة الهاشمية في أذهان المجتمع وإشغال المجتمع لهمّ الأسرة الهاشمية نفسها، وربما كذلك الشك بقدرة الحكومات على أداء واجبها نحو المجتمع على الوجه الأمثل. فكان دور الديوان الملكي في القيام بخدماته ضرورة وطنية تحمل في ثناياها نقدا داخليا لأداء الحكومات المتعثّر.

 ولعل كثرة تغيير الحكومات من وقت لآخر ما يشي بشيئ من ذلك. فعمر الحكومة عادة يتراوح بين سنة وثلاث سنوات ، وهو عمر قصير لا تستطيع الحكومة أن تنجز برنامجها وخدماتها. وربما يكون المسكوت عنه هنا، أن الأسرة الهاشمية هي التي تسهر على رعاية المجتمع وتقديم كل ما يحتاجه بشكل أساسي وأن جلالة الملك لا يطمئن إلى أداء الحكومة التي تدير شؤون البلاد الاطمئنان كله، علما بأن ميزانية الديوان الملكي هي من موازنة الدولة، كما أنه يمكن للمتمعّن أن يستنتج أن أعضاء الحكومة وهم من فئات المجتمع، أو بتعبير أدق من بعض فئات المجتمع ذات النفوذ والقوة، أقول يمكن للمتابع أن يستنتج أن المجتمع نفسه ومن خلال الحكومة التي ينتمي أعضاؤها إلى هذا المجتمع أنها غير قادرة وأكاد أقول غير مؤهّلة أن تدير شؤون المجتمع، بل لماذا هذا التجنّي على أعضاء الحكومة واتهامها بأنها غير مؤهّلة، هي مؤهّلة وذات كفاءة عالية، فأعضاؤها يحملون أعلى الدرجات العلمية ويتمتّعون بخبرات عالية المستوى في تخصّصاتهم، ولكن الإشكال في تغليب مصالح أصحاب القوى والنفوذ على الصالح الوطني والمجتمعي. وإذاً؛ فالأسرة الهاشمية إلى جانب أنها الأكفأ والمؤهلة لقيادة المجتمع قيادة سليمة، فإنها ليست ذات مصالح خاصة إلا الصالح الوطني والمحافظة على وجود الوضع السياسي بقيادتها. فالأسرة الهاشمية على وعي تام بتركيبة المجتمع ومراكز النفوذ والقوة فيه، الأمر الذي يدفعها إلى سدّ النقص الطبيعي والمكتسب الناتج عن مراكز النفوذ والقوة وسوء توزيع الخدمات والامتيازات على فئات المجتمع بالمساواة.

ففي كل مجتمع يميل الناس إلى تطوير توقّعات متّفق عليها تتعلق بالسلوك الاجتماعي في المواقف المختلفة. وحينما يصبح النظام السياسي معقّدا ومستقرا، فإن الأدوار السياسية تنمو. ولعل أوضح الأدوار السياسية التي يؤديها الأشخاص كوزراء أو الذين يشغلون الوظائف العليا في الدولة، أقول إن من المفترض أن تكون أوضح الأدوار التي يؤديها هؤلاء هم الذين ينشئون ويفسّرون ويطبقون الأحكام التي تكون ملزمة لأعضاء النظام السياسي الذين ينتمون إليه، وأعني به منظومة الأسرة الهاشمية التي تنتمي إليها أجهزة الدولة المختلفة ومن ضمنها حكومة هذه المنظومة. ولكن تسييس الوظائف والمناصب وتوظيفها لخدمة مصالح قوى النفوذ والهيمنة هو ما يجعل الحكومات المتعاقبة موضع شكّ وارتياب. وفي أي لحظة؛ فإن شاغلي هذه المناصب أو الأدوار يكونون بالضرورة أفرادا محدّدين أي معينين.

وفي النظام السياسي الأردني، كالكثير من النظم السياسية، لا تتغير الأدوار بتغيّر الأفراد الذين يتتابعون على القيام بها. ومما لا شك فيه أن اللاعبين المختلفين للأدوار قد يقدمون تفسيرات مختلفة لكثير من شئون المجتمع الداخلية وربما يقدمون تفسيرات مختلفة للشئون السياسية الدولية ذات الصلة بالشئون الأردنية كأحداث غزو العراق للكويت أو لعلاقة إيران بالوسط السياسي العربي مثلا. ولكن أكثر ما يعنيني البقاء في داخل الشئون الأردنية الاجتماعية بشقيها السياسي والاقتصادي. فلعلّ الملك يهدف من كثرة تغيير الحكومات من ضمن ما يهدف إليه هو بناء توقّعات جديدة في عقول المجتمع الأردني تتعلّق بما يجب على رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة القيام به أو بشرعية ما تستطيع الحكومة القيام به وهي على رأس مسئولياتها، وإذن فمع كل تغيير للحكومة هناك توقّعات جديدة بشأن ما يمكن للحكومة الجديدة أن تفعله. فعنصر الثبات في تغيير الحكومات المستمر في النظام السياسي الأردني يوحي بأن هناك عددا كثيرا من الطرق والوسائل كي  يظنّ كثيرون أن بإمكانهم أن يصبحوا رؤساء وزارات أو وزراء، وهذه الكثرة بقدر عدد الرجال المستعدين للاضطلاع بهذا المنصب.

وقد تكون هناك أسباب أخرى من وراء كثرة التغييرات الدورية في الأشخاص لغرض انتهاج سبل جديدة. فالملك بموجب الدستور الأردني يبقى في سدّة الحكم إلاّ أنه يقوم بين حين وآخر بتغييرات كاسحة في المجموعة المحيطة به كرئيس الديوان والحكومة نفسها، وقد يكون لهذه التغييرات علاقة ببرامج جديدة وباتجاهات جديدة تقتضيها تلك البرامج. والفترات الدورية للتغييرات غير محدّدة وغير منتظمة، ولكن يمكن ملاحظتها بتغيير الحكومات عند انتخابات الدورة البرلمانية كل أربع سنوات أو بانتخابات يدعى إليها قبل أوانها. ويضاف إلى ذلك أن التغيير في الحكومة أو رئاسة الديوان الملكي يمكن أن يعودا كذلك إلى تغييرات معينة في التكوين الاجتماعي للمجتمع وربما في مطالبهم السياسية أو ما يقتضيه الوضع السياسي العام، ولكن لنلاحظ أن الملك في الغالب لا يقوم بإجراء التغييرات بحيث تبدو وكأنها استجابة لضغوط اجتماعية أو استجابة لضغوط بعض الجهات أوالفئات، إنه يتمهّل حتى تمرّ الاحتجاجات ثمّ يقوم بإجراء التغييرات وكأنها إجراء عادي.

ونشير هنا إلى أن الحكومة الحالية تعمد إلى توسيع القطاع العام كضرورة سياسية للمجتمع، وهي تتمثّل في تقديم الخدمات العامة عن طريق التوظيف الذي تمليه الاعتبارات السياسية كوسيلة لتوزيع الدخل القومي أو لاستيعاب فئات مهنية كخريجي المعاهد والجامعات. ولكن لا ننسى أن هذا العامل هو نفسه الذي أدّى إلى بروز قوى الضغط الوظيفي المرتبطة أو المتولّدة سابقا عن مصادر القوى والنفوذ في أجهزة الدولة. والمثال الذي التقطته من بين مئات الأمثلة عن دور قوى الضغط في غياب العدالة والمساواة عن كثير من الشباب الباحثين عن الوظائف لأنهم يفتقرون إلى الارتباط أو الاتصال ببعض قوى الضغط ومصادر القوة، وإلا كيف نفهم أن بعض خريجي الجامعات يجدون وظائفهم بانتظارهم في حين أن آخرين من التخصّص نفسه لا يجدون من يلتفت إليهم؟ وهل أشير هنا إلى الخمسة عشر شابا من خريجي كلية الصحافة والإعلام بجامعةة اليرموك الذين تدربوا لمدة عام ثم مدّدت لهم الإدارة عاما آخر حتى جاء الأستاذ صالح القلاب وألقى بهم في الشارع في الوقت الذي جرى تعيين غيرهم في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون وهل أزيد بأن اقول أن بعذ من تخرج معهم أيضا قد جرى تعيينه في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون؟

وعلى أية حال، فلمعرفة آثار توسيع القطاع العام لا يكفي أن نعرف عدد العاملين والموظفين في قطاع الدولة مباشرة، فهناك فئات واسعة تعتمد بطريقة أو بأخرى على قطاع الدولة مثل العاملين في القطاع الخاص والموظفين في صناعات وأعمال تعتمد بشكل رئيسي على مقاولات الحكومة والتوريد لأجهزتها وكذلك الذين يعملون لحسابهم ولكنهم يعتمدون على مقاولات وأعمال للجهاز الحكومي والقطاع العام، ويعتمدون كذلك على المرافق والمنشآت التي يوفرها قطاع الدولة لهم كالمتقاعدين ومستحقي الإعانات الحكومية والذين يستفيدون من خدمات الدولة المجانية وشبه المجانية، وهل يمكن أن نعتبر هذه الخدمات تتمّ بعيدا عن ممارسات قوى الضغط الاجتماعي أو الوظيفي؟ ومهما يكن من أمر؛ فإن جميع هؤلاء يعتمدون في أحوالهم المعيشية أو أوضاعهم المادية على الدولة يرتبط بعضهم بالبعض الآخر عن طريق موازنة الدولة، ويتأثّرون تأثّرا مباشرا بالتغيرات التي تطرأ على السياسة المالية للدولة، ومعنى هذا، أن سلطة قوى الضغط والنفوذ قد امتدّت إلى حيث يكسب الناس قوتهم، فأصبحت الدولة من خلال القوى الوظيفية والنافذة هي التي تقرّر للناس ما يأكلون وما يتعلمون وما يعملون بل وحجم كل من هذه الأفعال ومقداره. فالمواجهة أصبحت بين الدولة والمواطن يومية متّصلة وغير متكافئة بأي حال من الأحوال، بدءا من الاعتماد على الراتب الشهري، ومرورا بطوابير المؤسسات المدنية والعسكرية لشراء حاجاتهم، وبطوابير إنجاز المعاملات الرسمية في الدوائر الحكومية، إلى طوابير المرضى والمراجعين في المستشفيات، إلى أساليب الترقّي في العمل والحياة. وكل واحدة ممّا ذكرت وممّا لم أذكر تتطلّب معاناة بلا حدود يكون المواطن فيها عرضة لسطوة المسؤلين صغارا وكبارا، إلاّ إذا كنت على صلة بهذا الموظّف أو ذاك. ما السبب الذي يمكن أن ننسب له مثل هذا؟ ربما كان ذلك عائدا إلى قلة أعداد الموظفين أو الأطباء أو غير ذلك، وحتى لو زيدت أعداد الموظفين للتخفيف من معاناة المواطنين، فما هي آليات تعيينهم بعيدا عن ممارسة قوى الضغط الاجتماعي والرسمي والوظيفي؟ صحيح أنه يجري طرح إعلانات في وسائل الإعلام المختلفة عن شواغر الوظيفة في أجهزة الدولة أمام المواطنين، وتجرى لهم امتحانات ومقابلات، ولكن هل يتمّ ذلك بنزاهة بعيدا عن ممارسة المحسوبية وقوى الضغط؟

إذاً؛ يمكنننا أن ننتهي إلى أن هناك نخبة تحاول أن تلتفّ حول النخبة المسيطرة في مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهناك نخب أخرى ملتفّة حول النخبة الأولى، ولكن هناك أيضا الطبقة المستفيدة، أي الطبقة المكوّنة من شرائح الفئات الوسطى الواسعة التي استفادت من سياسات الدولة أو قل من مصادر القوة والنفوذ في أجهزة الدولة، على الرغم من وقوعها في كثير من الأحيان فريسة وهدفا لممارسات هذه النخب النافذة. 

فالتعددية العشائرية أو القبلية وقل الحزبية في الأردن التي تكاد تكون غائبة فيما عدى جبهة العمل الإسلامي، والانتخابات النيابية والعنف الاجتماعي والقوى السياسية ؛ كلها أدوار لا تفهم في إطار علم السياسة بل يجب الخوض في البنيات العقلية والأنساق الاجتماعية والثقافية إذا أردنا تفسير هذه القضايا وفهمها. فالعلاقات القبلية والعشائرية والرواسب النفسية والعقلية لفئات المجتمع الأردني هي التي تعطي الظاهرة السياسية الأردنية مدلولها الخاص. فللقبيلة أو للعشيرة حضور أوتأثير أحيانا يوازي حضور الدولة نفسها بل إن هذا الحضور لهذه القبيلة أو لتلك العشيرة ضرورة كبيرة للمحافظة على وجود الدولة الداخلي، أعني سلامة البنية الداخلية للدولة. فللشخص - الرمز التقليدي في العشيرة أو القبيلة حضور واحترام وتأثير أكثر من تأثير وحضور المؤسسات والقانون أحيانا. والتعددية العشائرية في الأردن التي لا تكاد تفرز اتجاهات سياسية متباينة في حالة الأحزاب السياسية المحدودة التأثير والحضور، لا تقوم على برامج سياسية واقتصادية بل تقوم على انتماءات اجتماعية عشائرية. فأفراد المجتمع لا يذهبون إلى الانتخابات النيابية وحتى النقابية للتصويت على برامج سياسية بل على أشخاص تربطهم بهم قرابة أو علاقة قوة.

وقد أدّت عمليات التحديث والتنمية التي شهدتها الدولة إلى بروز شرائح اجتماعية وسطى جديدة تضمّ أطباء ومهندسين وصيادلة ومعلمين وأساتذة جامعات عند العشائر ذات الكثافة العددية، أقول أدّى ذلك إلى زيادة احتمالات التوتّر الصامت من قبل بعض القوى الثقافية الجديدة، وهو ما دفع النظام السياسي الأردني إلى استيعاب هذه الشرائح في إطار الوظائف العليا وخاصة في الأجهزة الإدارية والاقتصادية مع تحييدها عن أن تصبح قوة سياسية ذات وجود فعّال، أي أن النظام السياسي يحرص على استقطاب هذه القوى الثقافية على الانخراط في حياة الدعة والترف حتى لا تنضمّ إلى قوى جبهة العمل الإسلامي أو قوى المعارضة الاجتماعية ذات الوجود السياسي المحدود. وهناك شكوك في إمكانية النظام السياسي الأردني على الاستمرار في استيعاب هذه الشرائح المتنامية بتوفير المراكز والمناصب المرموقة لهذه الفئة المثقفة في ضوء زيادة هذه الأعداد المثقفة وعدم قدرة جهاز الدولة عن استيعابهم وتوفير المراكز التي ترضي طموحاتهم، وكذلك في ضوء تراجع وانكماش القوة الاقتصادية للدولة بالنظر إلى الأزمة المالية العالمية علاوة على ضآلة الموارد الاقتصادية الأردنية أصلا. ثمّ ليس من المحتمل أن تستمرّ هذه القوة الثقافية الناشئة أو بعضها بالنظر إلى عمر الدولة الأردني القصير نسبيا في اقتناعها بأدوار وظيفية تنفيذية  في الإدارة والاقتصاد فقط، بل لابدّ من أن تتطلّع إلى المشاركة في الحياة السياسية وعملية صنع القرار وبخاصة في ضوء ثقافتها الحديثة وضعف ارتباطاتها بالنظم والقيم والولاءات التقليدية، ونتيجة غياب المؤسسات السياسية في هذه النظم وعدم اقتناع النخب التقليدية المؤثرة والحاكمة فيها بالمشاركة السياسية، فإن احتمالات التوتّر بين هذه الشرائح والقوى المؤثّرة ستزداد أو ستنتقل من حالة القوة والإمكان إلى حالة الفعل والتحقّق. فالفئات الثقافية الجديدة المحايدة أو المحيّدة سياسيا لها طموحات سياسية، والمتنفّس الشرعي المتمثّل في الأحزاب هو متنفّس محايد لا يلبي طموحاتها مما يبقي ولاءاتها محصورة أو مشدودة إلى عشائرها المحدودة الوجود السياسي أصلا، ولعلّ هذا ما جعلها أصلا تخرج إلى حدّ ما على التفاعل القوي مع عشائرها ويجعلها تتّجه فرديا نحو البحث عن وجود سياسي من خلال فئات أخرى ذات وجود فاعل عشائري ثقيل أو ذات وجود سياسي شخصي مؤثّر.

فعمليات التحديث والتنمية التي يوجّه إليها الملك تراعي ولا شك ثقافة المجتمع، ومن الملاحظ أنها تم ببطء حتى يتاح لها أن تحث التأثير المطلوب بعيدا التطور المصطنع وغير الطبيعي، لأن عمليات التحديث إذا لم تتم بهدوء من الممكن أن تؤدي إلى مجموعة من الاختلالات والتناقضات تضاف إلى التناقضات الاجتماعية والسياسية بين العشائر المختلفة في مختلف المناطق في المجتمع الأردني، كل ذلك يمكن أن يمثّل مصادر للتوتّر وعدم الاستقرار في المستقبل. وإلى جانب ذلك هناك التبعية الاقتصادية والغذائية وغيرها وما لها من تأثير في إيجاد حالة من الازدواجية داخل فئات المجتمع الأردني المختلفة. فإلى جانب منظومة القيم والقطاعات الاقتصادية التقليدية برزت أنماط قيم وقطاعات حديثة في الثقافة والاقتصاد والتعليم، الأمر الذي أدّى إلى أن يخلق مجالات للاحتكاك والتوتّر بين القوى الثقافية الجديدة والتقليدية التي تشعر بالتهميش بالنظر إلى االقوى ذات الحضور والفاعلية. وبالرغم من طموح البرامج التنموية التي يدعو لها الملك إلا أنها لم تنجز تنمية بالمعنى الحقيقي، أي تمكين المجتمع من تنويع قاعدته الإنتاجية وعدم اعتماد الشباب المثقف على الوظيفة، كما أننا ما زلنا نلاحظ انتشار البطالة وتضخّم قطاع الخدمات وتدني قيمة العمل وبخاصة مع ارتفاع معدلات الإنفاق العام في مجالات التعليم الجامعي والصحة والإسكان - ولا أجرؤ أصلا أن أذكر مجال الترفيه - بالإضافة إلى المستوى المعيشي المنخفض لأغلب فئات المجتمع. كل ذلك لا يمكن أن يمرّ دون كلفة وتداعيات سياسية ملموسة. وفي الجانب السياسي نفسه لا بدّ من أن نذكر وجود عناصر وشرائح اجتماعية استطاعت أن تستغلّ أجهزة الدولة لتحقيق ثروات ووجود سياسي متميّز مما يؤدي إلى شعور فئات أخرى وبخاصة من العشائر المختلفة وبعض شرائح الطبقة الوسطى بالغبن الاقتصادي والسياسي مما قد يسمح بإحداث بعض الصراعات والاحتكاكات الاجتماعية مع السلطات السياسية.

 ولنوضّح ذلك في عجالة هنا، في العقود القريبة الماضية حدثت بعض الاحتجاجات في مناطق معينة ولم تكن عامة تشمل مناطق الأردن كله بسبب ارتفاع أسعار بعض السلع والمواد الغذائية أو ارتفاع نفقات المعيشة بشكل عام. فشكل النظام السياسي في الأردن لا علاقة له ولا يعتبر عاملا حاسما في ظهور الاحتجاج في مناطق وغيابه في مناطق أخرى. فمن الأهمية في تفسير ذلك النظر إلى الظروف والمعطيات المجتمعية التي تشمل البيئة الأكبر للنظام السياسي. فهذه الظروف والمعطيات هي التي تسبب العنف والاحتجاج أو تخلق الظروف الملائمة لزيادته أو نقص معدله أو حدوثه في هذه المنطقة أو تلك. وانطلاقا من هذا؛ فإنه يمكن ربط تلك الاحتجاجات بعدد من المتغيرات التي تصيب المجتمع مثل التحضّر وطبيعة التركيبة السكانية لهذه المنطقة أو تلك وعدم التجانس الاجتماعي والثقافي وضعف التنمية الاقتصادية وعدم العدالة الاجتماعية وغياب المشاركة السياسية. وتعتبر فاعلية النظام السياسي متغيرا وسيطا بين المتغيرات التي تطرأ على المجتمع والتي تسبب العنف السياسي من جانب، وزيادة أو نقص معدّل هذا العنف من جانب آخر. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن هذه الاحتجاجات وما ماثلها هي أحداث منخفضة الدرجة من حيث الشدة، أي أنها محدودة من حيث النطاق الاجتماعي أو الزمني أو الجغرافي، فهي ليست أكثر من مظاهرات محدودة ولذلك كانت عقوباتها محدودة، فلم تزد على عمليات اعتقال جزئية. إن ذلك كله يدلّ على حالة الاستقرار السياسي السائدة والتي يتميّز بها المجتمع الأردني من جانب، وحالة استقرار الأسرة الهاشمية بين فئات المجتمع الأردني من جانب آخر. فالاحتجاج الذي حدث لم يكن بسبب نفور أو كره للأسرة الهاشمية وإنما كان احتجاجا على سياسات الحكومة التي تدير شئون المجتمع، وفرق كبير بين الحالتين.

وعلى الرغم من قلة الموارد للأردن؛ فإن الملك يبذل جهده لتوفير ظروف حياة ملائمة أكثر مما تبذل الحكومة نفسها، بل إن ما تبذله الحكومة هو جزء من طموحات الملك وإرشاداته. وعلى أية حال، فتلك الاحتجاجات كانت محدودة التأثير لأنه لا وجود لمجموعة من المتغيرات الوسيطة المستقلة التي قد تؤتي تأثيرها في مثل تلك الاحتجاجات وتحدّد طبيعة العلاقة واتجاهها بين أصحاب هذه الاحتجاجات وهذه المتغيرات المستقلة. فالحرمان الاقتصادي مثلا لا يؤثر مباشرة في العنف السياسي أو ليس سببا رئيسا من دواعيه، فالعلاقة الطردية الايجابية بينهما  تتم من خلال عدد من المتغيرات الوسيطة تتمثّل في زيادة الوعي بالحرمان من قبل قطاعات شعبية واسعة وزيادة السخط والتذمّر على المستوى الشعبي العام وتراخي قبضة الدولة على الأجهزة الأمنية ووجود مؤسسات وتنظيمات وقيادات بديلة تحرّك بعض القطاعات الاجتماعية المحرومة في إطار المواجهة مع النظام القائم. كما أن تحقيق درجة عالية من التمية الاقتصادية لا يؤدي إلى الاستقرار السياسي ما لم يكن هناك توزيع عادل لثمار عملية التنمية. ولا يترتّب على زيادة التبعية بالضرورة زيادة العنف السياسي متى توافرت بعض المتغيرات الوسيطة مثل الثراء المادي الذي يؤدّي إلى حياة اجتماعية مقبولة للمواطنين من خلال بعض المشاريع كمشروع سكن كريم لكل أسرة. يمكن القول هنا إذاً، بعد ما ذكرته هو أن ظاهرة الاحتجاجات التي حدثت هي حركات عفوية عشوائية غير منظمة أمكن احتواؤها بسرعة لأنها كانت محدودة الأهداف وليست ذات طابع سياسي منظّم. فمثل هذه الاتجاهات بعيدة عن التركيبة السياسية  للمجتمع الأردني.

وعلى أية حال، فنحن لا نوافق على أن نعتبر أن ارتفاع الأسعار يمثّل الأسباب الحقيقية لهذه الاحتجاجات - أو ما يمكن أن يحدث مثلها مستقبلا - وإن كانت تمثّل الأسباب المباشرة لها. فلا بدّ من التمييز بين الأسباب المباشرة التي تؤدّي إلى تفجّر هذه الاحتجاجات أو هذا العنف وتلك الأسباب والعوامل غير المباشرة أو الكامنة التي تقف خلفها. فالاحتجاجات تعتبر بمثابة المناسبات أو الشرارات التي فجّرت العنف. لكنها ليست الأسباب أو العوامل البنائية الكامنة التي تولّد ظاهرة العنف والاحتجاج. فقيام الحكومة برفع أسعار بعض السلع في ظلّ ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية متردية يعتبر عاملا مباشرا لاندلاع بعض أعمال العنف والاحتجاج، لكنه في حقيقة الأمر يعكس أزمة تنموية تتمثّل أبعادها الاقتصادية في موجات التضخّم والبطالة والعجز في ميزان المدفوعات والديون، ومن ثمّ يصبح العامل الرئيسي الكامن لاندلاع الاحتجاج وأعمال العنف غياب أو تدهور التنمية في الأردن. ومن خلال المثال الذي ضربناه – ويمكن أن يتكرّر مستقبلا في ظلّ الارتفاع المستمر للأسعار- يجب التأكيد على ضرورة البحث عن المصادر الكامنة والهيكلية للاحتجاج والتوتّر دون الوقوف على الأسباب المباشرة له. غير أن هذا لايمنع من اعتبار الأسباب المباشرة مدخلا لتحديد ومعرفة المصادر الأعمق للظاهرة. فمن خلال تتبّع تكرار الأحداث ومعرفة المطالب التي ترفعها هذه القوى أو تلك يمكن تحديد وفرز الأسباب التي تعكس درجة الاستمرارية وتعبرّعن عوامل كامنة ومستترة في البنية الاجتماعية، وتلك المتغيرة أي تلك التي تنتهي بانتهاء السبب المباشر لها.

وقد دأبت على القول فئات المجتمع الأردني غالبا ولم أقل المجتمع الأردني، لأن موضوع الدراسة هو البحث في طبيعته، لأننا نعرف أن المجتمع الأردني يتكون من عدة عشائر مختلفة، وهذا يعني أن للحقيقة الاجتماعية عدة وجوه مختلفة، الأمر الذي يعني أن هناك اختلافا في الآراء وفي التفسير والتحليل عند مختلف هذه العشائر لكثير من الأحداث الاجتماعية والسياسية، وبخاصة ما يجري على السياسة ألأردنية فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية، وهذا يعني عندنا أن الخلافات في الرأي طبيعية تماما وتدل على وعي المجتمع الأردني لعملية التطوّر الحضاري ولما يدور حوله من أحداث ووقائع سياسية. إن هذه الاختلافات داخل فئات المجتمع الأردني في التحليل والرؤية أحيانا منبثقة عن الطبيعة الجدلية للمعرفة، حيث يتكوّن الفكر الإنساني من خلال التفاعل المتبادل بين الإنسان والواقع المحيط به، فالمعرفة والوعي بها يتطور ويتقدّم من خلال التعارض بين نتائج المشاهدات والتجارب الجديدة. فالرؤية العامة لمجتمع ما لا تصدر عن فئة أو عشيرة ما داخل مكوّنات المجتمع وإنما تشمل المجتمع كله في نهاية المطاف لأنها تعبّر عن بنية عقلية فكرية عامة ينضوي تحتها فئات المجتمع كله.

إن هذا التمايز في فئات المجتمع الذي تشكّل العشائرية أهم مكوّناته يعني أن المجتمع الأردني أصبح من النضج والوعي ما يسمح له بأن يقبل هذا الحراك الديموقراطي، إن على مستوى الانتخابات النيابية أو حتى على مستوى الانتخابات التي تجري داخل مؤسسات المجتمع المدني. إن ذلك كله يشير من طرف بعيد أو قريب إلى استقرار الوعي السياسي إلى درجة معقولة في البنى العميقة للمجتمع وإلى نظرة المواطن الأردني نفسه وإلى سلامة وجود الأسرة الهاشمية في نفس المواطن الأردني. فالتعددية العشائرية هي من باب التعدد في وحدة المؤسسة الهاشمية، كما أن وحدة المؤسسة الهاشمية نفسها هي من باب الوحدة في تنوّع الفئات الاجتماعية الأردنية المختلفة. وأكاد أقول هنا إن الأسرة الهاشمية الأردنية هي بمثابة المعلوماتية التي استطاعت أن تلغي مسافات الزمان والمكان داخل فئات المجتمع الأردني وجعلت منه مجتمعا يعيش داخل أسرة واحدة وبيت واحد تماما كما استطاعت المعلوماتية أن تجعل العالم يعيش في قرية واحدة، وهي كذلك ذات ميزة طبيعية تتمثّل في مركزيتها، شأنها في ذلك شأن قانون الجاذبية في النسق الاجتماعي، فالأسرة الهاشمية هي بمثابة المعلوماتية الاجتماعية التي صنعت هذا المجتمع المتجانس في الأردن. وإذا كانت المعلوماتية تمثّل تكنولوجيا الاتصال الحديث في العالم، فقد كانت الأسرة الهاشمية تمثّل حداثة الاتصال الاجتماعي وتواصله داخل المؤسسة الاجتماعية الأردنية.

ومع أن الصلات بين الأسرة الهاشمية المالكة وبقية فئات الجتمع تتم من خلال تصوّرها أن العمل والأداء والكفاءة هي مقاييس الأفضلية، فقد أبرز ذلك تصوّر بعض الفئات أن هذه الكفاءة مقصورة في الغالب على دور الأسس الوراثية لدى هذه الفئات ذات الموقع الاجتماعي الذي جعلها تحظى بالمواقع المتقدمة في الدولة بل وجعلها في حالة من التنافس فيما بينها وأحيانا داخل النخبة الاجتماعية الواحدة وأحيانا أخرى مع أفراد من الأغلبية وهو ما سمح بظهور بعض الأفراد لفترات محدودة ثم عادت هذه الأفراد إلى الاختفاء أو إلى الوجود السياسي الخجول والمحدود مع بقائها في الواجهة بين فئات المجتمع المختلفة. وقد أدى انحسار دور هؤلاء الأفراد إلى الانسحاب مثلا من مجلس نخبة الملك المعروف بمجلس الأعيان والبقاء داخل مجلس النواب أو في قيادة بعض المؤسسات الاجتماعية أو الاقتصادية مما قد يوحي بأنهم يستندون في وجودهم السياسي والاجتماعي إلى دعم المجتمع وتأييده وليس إلى فضل مراكز القوى والنفوذ في المجتمع، ومثل سلوكهم هذا قد يوحي بأنه يوجد داخل بعض العشائر أفراد لهم من الأفضلية والتمّيز ما ينعكس على عشائرهم أو أن أفضلية عشائرهم قد انعكست عليهم أيضا، وفي الحالين وقع هؤلاء في وهم بأنهم أقلية تتمتع بحظوة الأسرة الهاشمية. غير أن الهاشميين يحكمون عن طريق كسب رضى العشائر جميعا بشكل أو بآخر لأن ذلك يمثّل المصالح والغايات لفئات مهمة وذات تأثير في  المجتمع وهو ما يقرب النظام السياسي الأردني من النظام الديموقراطي او ما يجعله في ظلّ هذا النظام على أقل تقدير. ولا شك في أن الملك يعرف تمام المعرفة بنية المجتمع الأردني التي لا تسمح بظهور ديموقراطية كاملة في الحياة الاجتماعية والسياسية في الأردن بحكم ثقافة المجتمع وعاداته وتقاليده، والانخراط في حياة ديموقراطية كاملة يحتاج إلى أجيال وعمليات تحديث تدريجية تنقل المجتمع من حالته هذه إلى حالة جديدة من أنماط الثقافة والتحديث.

ونحن عندما نقوم بهذه المقارنة نجد أن النخب ذات النفوذ السياسي والاجتماعي هي الأقلية من بين فئات الشعب أو قل العشائر ، وليس لذلك من تفسير إلا لأنها تؤمن بالتفاوت بين الأسر النافذة أو الفئات النافذة أو حتى بين الأفراد وأحقية الارستقراطية بالبقاء في الواجهة. وربما يصح القول إنه كلما تزايد حجم العشيرة أو النخب السياسية النافذة كلما تعدّدت الوظائف وتعقّدت المهام، فالمجتمعات أو قل العشائر كلما تطوّرت انتقلت من مجتمعات بسيطة إلى مجتمعات معقّدة وانتقلت من التجانس إلى اللاتجانس وغابت روح المساواة بين الأفراد مما يتطلّب توزيع الوظائف والمناصب، إن الاعتماد على العشائر الكبيرة أو على الأفراد الذين ينتمون إلى عشائر كبيرة قد يؤدي إلى خلل في التوازن الاجتماعي، بينما إذا استمر الاعتماد على الأسر الصغيرة أو العشائر الصغيرة؛ فإن هذا يتيح المساواة بين العشائر الكبيرة وكأن العدل في البقاء في صفوف الاحتياط أنجع من تجاهل الأقليات التي لا يثير ظهورها في الواجهة خللا في توازن الأكثرية. وهو ربما كان مطلبا أساسيا لاستمرار الاستقرار للدولة وللمجتمع.

وبتدقيق أكثر نلاحظ أن الأسر التي تقع في الواجهة السياسية هي ذات نفوذ اقتصادي وثراء بحكم تحكّم هذه الصفوة بالكثير من وسائل الاقتصاد كالشركات والمصانع مما أتاح لها نفوذا واسعا داخل المجتمع، فنحن إذا أردنا أن نبحث عن الفئة السياسية النافذة فعليا فعلينا أن نبحث عن الفئة التي تحصل أعلى الدخول، لأن الثراء يصاحبه عادة قوة سياسية واجتماعية. وعادة ما يأتي افراد الصفوة من الفئة العليا المرموقة اجتماعيا، فهذا التجانس الاجتماعي بين أفرادها وقوة العلاقات الاجتماعية والأسرية بينهم يؤدي إلى ترابط أفرادها بعيدا عن وجود علاقات قوية مع الفئات ذات الدخل المحدود.  فعلاقات جماعات الصفوة مع بعضها البعض  تشكل فئة متماسكة نسبيا، ويزداد هذا التضامن والتماسك إلى درجة إحكام الحلقات داخل المنظومة السياسية، أي كلما ازداد حجم الارتباطات المتبادلة والمصالح المتشابهة كلما تبادل الأفراد المسيطرون الأدوار المختلفة لأن هذا التماسك بين أفراد النخبة يقابله شبه انفصام أو انقطاع مع فئات المجتمع الأخرى حيث لا يمارس الشعب رقابة على عمل الصفوة، فهذه هي التي تتخذ القرارات المهمة داخل الدولة مبقية بقية الناس على الهامش، وهي تمارس عدة أساليب لهذا الإقصاء كالإطراء وتوفير فرص العمل والتحكم في مراكز القرار التنفيذي. ولا يخفى أن هناك ارتباطا بين السلطة والثراء وبخاصة في دول العالم الثالث، وهذا الحال يؤدي في الغالب إلى الشك من جانب فئات المجتمع الأخرى في مدى نزاهة قوى النفوذ ومراكز الهيمنة بل واتهام المجتمع لهذه القوى بالفساد الإداري والاقتصادي.

ولا يخفى أن نلاحظ أن القوة الاقتصادية وما يرافقها من تزايد الدخل والاستهلاك العام وانتشار الكنولوجيا والتعليم والرخاء ووسائل الاتصال قد رافقها اتساع واضح في ترابط أصحاب هذه القوى الاقتصادية وتبادل المهارات السياسية وانتخابات مجلس النواب مما سهّل تمييز هذه النخب السياسية الصغيرة بدقة على أساس أنها تدير الدولة في سياساتها الداخلية. ولا يخفى أن هناك صراعات بين بعض هذه النخب لأنها تنزع نحو ممارسة النفوذ في مجالات عدة للأنشطة المختلفة فتميل العلاقات فيما بينها إلى شيئ من التعقيد، إذ تصبح المعلومات والمعرفة مثلا موارد في غاية الأهمية لاكتساب النفوذ والاحتفاظ به عادة. ولعل هذا ما يفسّر بروز أسماء معينة في مراكز النفوذ وقوى الضغط الوظيفي، في حين لا تكاد تجد أسماء من خارج أوساط النخبة المعروفة، مع أنهم ليسوا أقل كفاءة أو تمكّنا في إدارة شؤون البلاد.

وسأضرب مثلا على قوى الضغط الوظيفي لا السياسي لدلالته على أن هيبة القانون وإغراء العدالة ينزلان من مكانتهما خدمة لمزاج النظام الفئوي والنخبوي أو لنقل يهبطان من حالة قانون عشائر الدولة إلى حالة عشائر القانون ورجالاته، ثمّ إذا كانت العدالة والقانون يغيبان أو يتغيبان في الشئون الوظيفية الدنيا الواقعة تحت نظر الجميع، فكيف يكون الحال في الشئون العميقة التي لا تكاد ترى بالعين المجرّدة. فمثلا؛ أورد كاتب في صحيفة الرأي بتاريخ 17.6.2009 ص 40 قصة فتاة أردنية تخرّجت من الجامعة سنة 1997   وتقدّمت بطلب توظيف إلى ديوان الخدمة المدنية أو قل وضعت طلبها في مركز تبريد ديوان الخدمة المدنية خوفا على المؤهّل ومحتوياته الثقافية من التلف الذي يمكن أن يصيبه بفعل عوامل الزمن والقدم. وعند تقديم الطلب كانت الفتاة تحتلّ الدور رقم ثلاثة وقبلها طلبان لشاغر وظيفي واحد. ولكنها فوجئت عند سؤالها عن دورها أنه بلغ المنزلة الحادية عشرة في عام الانتظار الحادي عشر. وقد علّل القائمون على الديوان أن سبب التغيير المفاجئ في الدور يعود إلى أسس التنافس التي تفرزها قوى الضغط الوظيفي وخبراء التحويلات الجانبية، ويعلّق على ذلك موظف استعلامات في الديوان أن انتقال الدور من الترتيب الثالث عام 1999 إلى الحادي عشر عام 2009 أمر لا يقبله منطق ولا تجيزه أعراف، وإن صحّ ذلك؛ فالقانون وضعي ويستوجب المراجعة والتدقيق والنظر في البعد الإنساني ومعايير العدالة والإنصاف، وفوق هذا وذاك؛ فإن النصوص المواربة لغايات الانحياز تحتاج إلى تمحيص ومراجعة، وإلا فإن الأزمة مرشّحة لتفاقم خطير إذا ما استمرّ غول المحسوبية في أكل الأخضر واليابس، هذا مثال بسيط وسريع، ويستطيع القارئ أن يتابع أكثر من هذا بكثير عبر الصحف ووسائل الإعلام المختلفة عن غياب العدالة بين الناس. ومن جهتي أنا كاتب هذه السطور لا أرى غرابة في ذلك، لأن الأصل في إدارة شؤون المجتمع في السياسة الداخلية ومتطلباته قائم على مراعاة قوى النفوذ وقوى الضغط الوظيفي. وإذا ما قمنا بعملية استقصاء؛ فإننا سنجد أمثلة كثيرة تؤكّد على دور قوى النفوذ والضغط. وينطبق هذا على مؤسسات أخرى غير ديوان الخدمة المدنية. والمتابع لوسائل الإعلام الأردنية المختلفة سيسمع وسيقرأ شكاوى فئات كثيرة من المجتمع بأنها لا تحصل على حقها وفرصها من الرعاية والاهتمام في مختلف المجالات. إنه لمن المهم أن تكون فئات المجتمع متساوية أمام القانون والتعليمات، ولكن الأهم من ذلك أن تصل أصوات فئات المجتمع كافة إلى المسؤولين بدرجات متساوية وقل أن تتساوى أمامهم الفرص ليصلوا إلى مستوى صنع القرار وإنتاجه لا أن أن يبقوا في حالات تنفيذه واستهلاكه. إن نشر الكثير من هذه الحالات عبر وسائل الإعلام يشي بشيئ من حرية النقد وأن المجتمع يعيش في ظلّ دولة المؤسسات، لكن الأهمّ من ذلك أن نشرها يجب أن يؤدي فائدة أخرى، وهي توعية المجتمع بحقيقة تركيبة مؤسسات الدولة القائمة على نفوذ أصحاب القوى والتأثير وليس على تأثير التعليمات والتشريعات والقوانين.

والحقيقة أنه بالرغم من ظهور بعض الأبحاث والدراسات التي تؤكّد أن البيروقراطية كنمط مركزي هرمي وقائم على التخصص الوظيفي الذي تتبعه النماذج الغربية غير ملائم للإدارة في الدول النامية التي لا تحتاج إلى الدرجة نفسها من التخصص والتي يغلب على مشكلاتها طابع الأزمة الدائمة أو ما هو قريب من ذلك، وأنه غير مناسب على الإطلاق لإدارة المشروعات الصناعية والإنتاجية حتى إذا كانت ضمن القطاع العام، فما زالت جهود الإصلاح الإداري تدور في فلكه ولا تحاول غيره، فإن حاولت غيره فهي تفعل ذلك بصورة شكلية بحتة، ودون أن تتخلّى عن جوهر النموذج البيروقراطي القائم على المركزية والتنميط والرقابة. لا شك في أن البيروقراطية المركزية هذه محدودة الفعالية في التنمية، إلا أنها أداة فعّالة لمصادر الضغط والقوى الوظيفية النافذة في مجال الضبط والتحكّم الاجتماعي والسياسي مما يستدعي الحاجة للبيروقراطية. فالقيادةة السياسية، قد تلجأ إلى اللامركزية الإدارية إذا كانت مطمئنة إلى الجوّ السياسي السائد، أما إذا كان هناك جوّ من عدم الاطمئنان فإنها تتجه إلى التمسّك بالجوانب التحكمية والتسلطية في الجوانب الوظيفية وغيرها. فحين تشدّد الأجندة السياسية المعلنة على أهداف التنمية، فإن السلطة والتحكّم قد يمثّلان أهدافا رئيسية في أجندة الحقيقة غير المعلنة، فالمنطوق به هو التنمية، ولكن المسكوت عنه هو الضبط والسيطرة من خلال عمليات الضغط الوظيفي وغيرها لضمان الاستقرار لمصادر القوة والنفوذ. فالسلطة الإدارية والوظيفية منوطة بهؤلاء النافذين وبحيث تتراوح السلطة الحقيقية لكل إدارة ولكل إداري بصورة تتناسب ودرجة اقترابه واتصاله من هذا المحور. وكثيرا ما يتمّ نقل أو تحريك الإداريين بين الأجهزة والمناصب المختلفة بصورة تذكّرهم دائما بمصادر القوة الحقيقية ولا تسمح لهم بتكوين دعائم لسلطتهم الفردية في أية مؤسسة. فالفساد الإداري الذي كثيرا ما يشكو منه المواطنون، كثيرا ما يكون حلقة جرى تناسيها عمدا في سلسلة جهود الإصلاح، ففضلا عن استفادة عدد من الموظفين منه استفادة مباشرة. قد يتسامح القادة السياسيون وأصحاب مراكز النفوذ أحيانا بقدر من الفساد باعتباره ضمانا لولاء بعض كبار الموظفين وصمّام أمان اجتماعي بالنسبة لصغارهم. ويكون إحساس كبار الموظفين بأن السلطات المسئولة قد تضع حدّا لهذا الفساد في لحظة ما وتبدأ في تطبيق القانون بصرامة، يكون هذا الإحساس مدعاة لحذر الموظّف المنحرف ولرضوخه للسلطة لكي تستمرّ في سكوتها وتغاضيها. لسنا ببعيدين عن أزمة البورصة التي هزّت المجتمع الأردني، كُثُر هم الذين تلاعبوا بأموال الناس على وهم أنهم يشتغلون بهذه الأموال بالبورصة، وفجأة تصحو الحكومة فتكشف اللعبة وتبدأ بمحاسبة هؤلاء المتلاعبين، أين كانت الحكومة؟ هل هي في غفلة أم في سبات؟ بالتأكيد، لا هي في غفلة ولا في غفوة، إنها في موقع مراكز القوى والنفوذ التي لا يطال تفكير أصحابها أكثر من المحافظة على أموالهم ومراكزهم. أسئلة كثيرة أثارتها أقلام الكتّاب والصحفيين ناقدة غفوة الحكومة وتأخّر إجراءاتها. ثمّ هل نحن ببعيدين كذلك عن قرار تغيير رؤساء الجامعات الأردنية الرسمية الذي حصل قبل بضع سنوات قلائل وما تابعه من نقد الأكاديميين والصحفيين على نطاق واسع. لقد ضربت مثالا لوظيفة بسيطة ذكرها كاتب صحفي عمّا حصل في ديوان الخدمة المدنية من هضم لحقّ مواطنة تنتظر دورها، ثمّ أعطيت مثالا عن البورصة ثمّ ما حصل لرؤساء الجامعات، ثم بمثال أوردته سابقا عمّا حصل لخريجي كلية الصحافة والإعلام الذين دربتهم مؤسسة الإذاعة والتلفزيون ثم جاء العين الأستاذ صالح القلاب ورمى بهم في الشارع، أي أنني خلطت الأمثلة بدءا بوظيفة بسيطة ثمّ بوظائف عليا ثمّ بمثال اقتصادي أصاب ضرره قطاعا واسعا من الأردنيين لأدلّل على أن المتابع يستطيع أن يرى الفساد يغطّي شرائح واسعة من عمل أجهزة الدولة كمّا يغطّي شرائح واسعة من أجهزة الدولة الاجتماعية. لا يسعنا إلا أن نقول هذه هي بعض مظاهر استخدام البيروقراطية كأداة في التحكّم والسيطرة السياسية التي تجعل دراسة موضوع السلطة في الإدارة من المناطق المحظورة في مجال الإصلاح الإداري في كثير من الأحيان. وبدخول موضوع السلطة في الإدارة في دائرة المحظورات؛ يصبح من السهل على قوى النفوذ الإداري مقاومة الأفكار الإصلاحية الداعية إلى المشاركة في اتّخاذ القرار بحجة أن المناخ الاجتماعي والسياسي السائد لا يسمح بذلك. غير أن الدولة تنشط هذه الأيام تحت ضغط جلالة الملك بأخذ الأمر على محمل الجد نتيجة للتغيرات في المزاج الاجتماعي تجاه مراكز القوى والهيمنة.

إن الذي يشغل مركزا وظيفيا مرموقا في السلطة التنفيذية قد يكون أهمّ بكثير ممّن يشغل مركزا نيابيا، ويزداد الأمر وضوحا إذا ما انتقلنا إلى منصب الوزير. فكثيرا مثلا ما ترى النائب يتعب كثيرا حتى يحظى بمقابلة وزير ما، في حين أن الوزير هو الذي يجب أن يجهد نفسه ليحظى بمقابلة نائب لأن دور النائب رقابي تشريعي لا خدماتي.

وعودة إلى العشائرية؛ فإن اندماج العشائر أو أجزاء مكوّنات الدولة الأردنية هو الغالب على الفعل السياسي الأردني. إن الهدف الاستراتيجي المتمثّل في المحافظة على الوطن هو الذي يحقّق التغلّب التدريجي على الفروقات والاختلافات بين المكوّنات الجزئية وصولا إلى قدر أعلى من التجانس والانسجام بين هذه المكوّنات. ولا شكّ، فإن هذا الاندماج قد يقوم على سيرورات اقتصادية وثقافية واجتماعية في الحدّ الأدنى هنا أحيانا وفي الحدّ الأعلى هتاك أحيانا أخرى. فنحن نجد أن الأردن موحَّد في الإطار السياسي العام، ولكننا نجد أنه غير مندمج على المستويين الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في إطار مراكز القوة والنفوذ إلى حدّ ما. فالاختلافات الاثنية والثقافية والدينية هي القاعدة في كلّ مكان من العالم، فالاندماج مسار متعدّد الأبعاد، ويمكن أن نراه يتحقّق في بُعد منها، بينما هو غير متحقّق في آخر، فمن الممكن مثلا أن نراه اندماجا سياسيا عاما يكاد يقترب من أعلى مستوياته، دون أن يرافقه اندماج اجتماعي عالي الدرجة. لكن يمكن أن نلحظ بوضوح أن المجتمع الأردني مندمج داخليا بدرجة عالية وهو ما يسمح بتمايزه عن غيره من المجتمعات الأخرى المجاورة أو في المنظومة العربية بعامة. صحيح أن هناك أصولا ومنابع مختلفة في الأردن، لكن لا بدّ من أن نقول إن التنوّع هو القاعدة، ولا ريب أن هانك جدلية مستمرّة بين التنوّع الطبيعي والنزوع للاندماج في الكل العام بغية الحفاظ على الوجود السياسي الأردني وهو ما يبدو في اهتمامات مكوّنات المجتمع الأردني. فالاختلافات الاجتماعية ليست بالقوة التي تهدّد حالة الانسجام والتجانس بين فئات المجتمع، فهذه الاختلافات لا تؤثّر كثيرا في حالة الاستقرار السياسي العام الذي يشكّل همّا وطنيا مشتركا يسعى الجميع لترسيخه وتعميقه. 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد