يوميات متقاعد عسكري

mainThumb

15-01-2012 01:48 PM

بطل قصتنا هذه المرة متقاعد من سلاح المدفعية بخدمة عسكرية ناهزت الـ23 عاما، قضاها في الذود عن حمى الوطن وتحمل الجوع والعطش والترهيب إبان حرب الاستنزاف لننعم نحن بالطمأنينة والسكينة.
 
وباعتباره خبيرا في قيادة الدبابات وميكانيكية المدافع وهي مجالات عمل غير مطلوبة أو بالأصح غير موجودة في سوق العمل، لم يفلح في الحصول على فرصة عمل مواتية للعيش بكرامة، فهل قرأنا مرة أن شركة أو مصنعا تطلبا شخصا ضليعا في أبراج الدبابات أو اسطوانات المدافع قصيرة المدى؟
 
لجأ هذا الرجل إلى مؤسسته وبيته الثاني بعد الجيش الذي تسبب عرض عسكري أثناء خدمته فيه بإصابته بالطرش الجزئي، وهي مؤسسة المتقاعدين العسكريين، لتحيله بعد فترة وجيزة للعمل موظف أمن في إحدى شركات الفوسفات، فما كان من بطلنا إلا أن بادر إلى الالتحاق بعمله بمرتب دون المعقول (100) دينار شهريا بزيادة مرعبة تبلغ 5 دنانير سنويا، وبالطبع دفعته الحاجة والعوز إلى قبول مثل هذا العرض المجحف تماما، والذي لا يكفي ربما لشراء ربطة خبز وكيلو بندورة يوميا عدا عن مصاريف جيئته وذهابه للعمل.
 
ولأن ليس للفقير والمغلوب على أمره خيار في طريقة عيشه، تمسك البطل بوظيفته وتفانى إخلاصا بتنفيذ الموكل إليه من عمل، ويتمثل بحراسة ليلية كاملة لمجموعة من خزانات المياه التابعة للمصنع، وللعلم فإن المصنع يقبع على بقعة صحراوية غنية بالموارد ولكنها موحشة وباردة ليلا، ولكن لأن هذه الخزانات حاكت في مخيلته العسكرية شكل الدبابة والمدفع لم تثنه عوامل الطقس عن متابعة التحديق بها وتأملها وكأنها قطعة من جسده.
 
وفي إحدى الليالي المظلمة الباردة من حراسته وكان قد تلحف بـ(فروة) من الصوف الطبيعي، فاجأته مجموعة من المارقين لا يعلم أمرهم إلا الله، وطلبوا منه تحت تهديد السلاح تزويدهم بالمياه فأخبرهم أن الخزان فارغ باستثناء بعض الماء في قاعه، فما كان منهم سوى رمي قعر الخزان من الخارج بالرصاص للحصول على المتبقي من المياه، فحاول ثنيهم عن فعلتهم ولكنهم أمعنوا غضبا وشططا وسبوه وسبوا مسؤوليه والشعب والدولة والجيش والأمن ثم وجهوا السلاح إلى رأسه وأخبروه أن لا ينطق بما شاهد.
 
وكان المتقاعد يحمل مسدسا غير أن الظروف لم تواتيه لإشهاره في وجوههم لأن بيدهم أكثر من نوع سلاح، ولما غادر جمع اللصوص موقع عمله أطلق رصاصة في الهواء ليخبر زملاءه عن حاجته للمساعدة، فهرع الزملاء ولكن فات الأوان.
 
ولأن الخزان مصاب في قعره برصاصة ولم يجد المسؤولون في المؤسسة والشركة من يتحمل المسؤولية صبت مذكرة التحقيق بحق البطل المتقاعد جام غضبها على أداء هذا الموظف واتهمته بالتقصير غير المبرر، وأن الطلقة التي في قعر الخزان خرجت من سلاحه وليس من سلاح آخر، وفرضوا عليه غرامة مالية وأحالوه إلى لجنة تحقيق موسعة.
 
خبير الدبابة والمدفع لم يتحمل ما لحق به من ظلم فاستنكف عن عمله الذي لم يوفر له سوى المشقة ووجع الرأس، وترك العمل في المصنع، وراح يزحف ويزاحم لفرصة عمل أخرى ليخلف وراءه سؤالا عريض المنكبين"من ينصف رجالات الدروع المسلحة وعوائلهم، ومن يعوضهم عن إصاباتهم وشقائهم طوال سنين خلت؟ وهل من مجيب لشكوى المتقاعدين العسكريين القدامى من مؤسستهم ورؤساء عملهم وتدني رواتبهم التقاعدية والجارية"؟
 
بلد يعد فيه المتقاعدون العسكريون الجيش الثاني ونقطة ارتكاز لا غنى عنها إذا ما لاحت الأخطار في الأفق..ومع ذلك تلف حياتهم مأساة الضياع الاجتماعي والمالي الذي أصاب نخاع الوطنية والمعنوية لديهم بالوهن والتقهقر وأثار انعدام العدالة الاجتماعية فيهم تساؤلات عن جدوى سني الخدمة العسكرية.
 
سؤالي هل هناك من يمارس القتل بحق المتقاعدين العسكريين وخاصة القدامى منهم، ومن أقحم في رؤوسهم أنهم من دون الجيش غير قادرين على العطاء ليقنعهم بالعجز والاضمحلال، ولماذا لا يكون للجيش والأجهزة العسكرية مؤسسات رديفة فعليا تحتوي متقاعديها وتؤهلهم لسوق العمل وتضمن لهم مستوى معيشي واجتماعي لا يقل عما سبقه أثناء الخدمة، ومن هم الذين خلطوا مفهوم الدبابة الموالية بالمدفع الفاسد وماذا استفادوا من ذلك؟
 
إن تسمية (المتقاعدين) العسكري تعد انتقاصا من قدر الجندية لأنها تشير إلى الموت ببطء أو أثناء القعود، ولا تنطبق دلالتها على المتقاعدين العسكريين إذ قد يطلب منهم في حالات طارئة كالحروب الالتحاق بوحداتهم العسكرية بنفس رتبهم وواجباتهم، فمن الأهمية تغيير التسمية إلى أخرى يتفق عليها المحاربون.
 
أعتقد أن المتقاعدين العسكريين القدامى هم الأول وأجزم أنهم الآخر، فبهم سنجتاز المحن والعقبات وليس من دونهم ستتحقق معادلة الأمن والاستقرار والمحافظة على أعمدة وأركان الدولة الأردنية الهاشمية لأنهم الأصل والفصل والأدرى والأخبر بالأساس والبناء.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد