غياب النظرة الشمولية والاستراتيجيات المستقبلية وبالتالي الأهداف المبتغى تحقيقها , أدى إلى ظهور الكثير من المشكلات والتي رافقها إعتصامات وإضرابات لكثير من القطاعات , يضاف إلى ذلك التغيير لأشخاص مواقع القرار , وغياب الشفافية في القرارات والقوانين , ما أفقدنا البصيرة في رؤية المستقبل مما يجعل صاحب القرار وفي كافة المستويات محصوراً في محدودية التفكير , وعصف ذهني مرافق لغياب روح وطنية مسؤولة , ونظرة دونية مقترنة بالتهميش في معالجة المشاكل بعد حدوثها وبالتجزيء , بعيداً عن البحث في مسبباتها و دوافعها لغياب الخطط والبرامج بعيدة المدى , وافتقارنا لآليات ملائمة لتحقيق الأهداف , والذي يمنع مؤسساتنا من الوقوع في الأزمات.
الفشل الحكومي في معالجة ما نراه يطفو على السطح من مشكلات وفي عدة قطاعات وحتى من خلال جلسات الحوار المتكررة , نابع من إتعدام الثقة بالوعود الحكومية , وهذا لم يتأتَ إلا من تجارب سابقة , عانت منها القطاعات التي تنفذ اعتصاماتها وإضراباتها , وفي مقدمتها المعلمين , حيث كانت تسود لغة التسويف والمماطلة والتباطؤ في التنفذ , والمحاولات المتكررة في الالتفاف على الحقوق والمكتسبات أو ما يتم الاتفاق عليه , ومحاولات كسب الوقت لإجهاض حالات الانتفاض اللحظية.
إن العقلية التي تحتكم لها الحكومة في اتخاذ القرار ومعالجة المشاكل , هي نفسها التي كانت تـُستخدم ما قبل الربيع العربي , ومتغافلة عن التحولات العميق في ذهنية المواطن , وبالتالي فإن استخدام نفس العقلية وأدواتها يجعلنا ننظر لهذه الحراكات المطلبية المختلفة من الخلف , ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه...ماذا سيحدث إن لم يستطع من لا يملك الاستراتيجية ويفتقد للشفافية من اللحاق والامساك بمفاتيح الحل..؟!!!
المعلمون بحقوقهم الشرعية يتنافسون والحكومة على كسب ثقة المجتمع , وهم يدركون أهمية هذا الجانب , وبشكل كبير , وذلك من معرفتهم المسبقة بأن الحكومة تمتلك من الأدوات , ما يمنحها القدرة على استخدامها متى تشاء في توجيه المجتمع المحلي لأن يكون في موضع المواجهة مع المعلمين , وهذا يتطلب الإدراك العميق من المعلمين في إدارة هذا الجانب بحنكة وذكاء , ما يجعل المجتمع أكثر تفهماً لمطالبهم المستحقة والانحياز لصفهم , فالدولة لا تريد لثقافة الإضرابات والاعتصامات من التجذر على أنها أداة ديمقراطية في التعبير عن الرأي , ولا تريد الدولة أن تطور نفسها كمؤسسات وما تمتلك من أدوات بما يتناسب مع هذه الثقافة الجديدة , التي يلزمها تطور ديمقراطي , والذي يستوجب منها زيادة الوعي المجتمعي بأهميتها في تجذير الديمقراطية وتقبل الآخر , ولأن صاحب القرار يشعر بأنه يفقد الكثير من سلطته المتعنتة وهيبته العـُرفية , ولأن الدولة تشعر بأن هذه الاضرابات والاعتصامات المطلبية المجتمعية , إذا ما تجذّرت على شكل ثقافة , فإنها تؤسس لعملية إصلاح سياسي حقيقي مدعوم بالشرعية التوافقية المستندة إلى قيم ديمقراطية جديدة , قد غيبتها الدولة لعقود طويلة مضت.
الحكومة عليها التعامل مع المعلمين بمبدأ التطور الديناميكي كمؤسسات , والتعاطي مع التحول الثقافي الجديد الذي يحمل قيم ديمقراطية جديدة على مجتمعنا , وبعيداً عن العقلية العُرفية البائدة وغير القادرة على استيعاب الإصلاح والتغيير , والرافضة لترسيخه كثقافة وسلوك يمكن ممارسته من القطاعات المجتمعية كأداة تأثير , بالابتعاد عن أسلوب التشويه المتعمد والتهديد بأساليب مختلفة من الإدارية إلى أسلوب البلطجة والعنف.
الإضرابات لها حدودها , وهذا ما يجب على كل الأطراف أن تعيه مما يتطلب أن ينظر المعلم إلى ثقة المجتمع واستمرار قياسها ومحاولة إبقائها في حدود تقبله لثقافة الإضراب , وفي المقابل على الدولة أن تعمل على ثني المعلمين من الاستمرار في الإضراب , بالتفاهم على دفع الحقوق والمكتسبات بعيداً عن الدفع إلى استخدام ورقة التجييش ضدهم , فالمجتمع الذي ينظر لإضراب المعلمين والمنقسم بين المؤيد والمراقب والرافض , سيجد نفسه وفي لحظة ما , في نفس الموقع , يكون فيه المعلمون ذلك المجتمع الذي يُحتكم إليه.
على الحكومة الابتعاد في تعاملها مع قضية المعلمين عن مبدأ الرابح والخاسر , فالاستجابة هي المكسب لكل الأطراف , المعلم والحكومة والمجتمع , وعلى عكس ذلك فإن الخاسر هي الدولة , وبالتالي عدم الاحتكام في المطالب من منظور مادي , فالأولى في الحكومة أن يكون مقياسها أكثر شمولية , والنظر إلى العملية التعليمية بكافة جوانبها التي محورها المعلم , والذي إستشعر منذ فترة طويلة وخاصة منذ بدء الحراك المطالب بالنقابة , لغياب العدالة والشفافية والتهميش والإملاء من صاحب القرار , الحكومة , وغيرها , قد اعترف بتراجع التعليم في السنوات الماضية وأن أبرز أسباب هذا التراجع هو تدني المستوى المعيشي للمعلم والمساس بكرامته , مما يستوجب على الحكومة بالعودة عن تعنتها ومنح المعلمين حقوقهم المكتسبة , وإعادة الثقة بالمعلمين حتى يكون أكثر عطاءً وأكثر إيماناً برسالته وأكثر إخلاصاً لمهنته , ومن ثم الاستقرار للطاقات المبدعة في وطنها والذي سينعكس إيجاباً على عملية النهوض بالعملية التعليمية , وخاصة , إذا أُشرك المعلم في عملية إعادة البناء وإزالة التشوهات التي عصفت بالتعليم .