في ركنِ هادئ من أركان اليرموك الفسيحة اشتَهى آدم ذاتَ مرّة أنْ يبوحَ بِرواسبه وذكرياته، وَقد عثرنا على بعضٍ من ثرواتهِ الروحانيّة التي نَقشها عبر روح نصّه بعد أن عشق فراشة من آل حواء هذا الزّمان، فَتعايشَ مَعها برشاقة ورقيّ وبنواة نقيّة ونفس طاهرة، فما باءَت نفسها تستلذُّ هذه الطّقوس فغادرت حاملةً ذكرياتها مُحمّلةً بأوجاعها وآلامها، فانساب إحساس آدم بمنظور عاطفي وخاطر عفويّ بـِالآتي:
"سألتُ مَنْ قسمَ بالشَّمس أَنْ يُنيرَ أَحْرفي وَيُضيءَ سحابةَ الفؤادِ وَبِطانةَ العقلِ فيما أَرْنو إليه مِنْ جُمَلٍ وَعِبَر شاءَ القَدَرُ أَنْ تَخُطّها يداي عبرَ مَتْحَفي الخاص، فَلسْتُ فرنسيّاً أو يونانيّاً وَلا مَرَرْتُ بِحادِثَةٍ إنجليزيّةٍ وَلا إغريقيّة، وَلا حَفِلَتْ قِواي بشيخٍ أنْدَلُسيّ وَلا عِصاميّ عُروبيّ... هي فَجاعَةُ الخلقِ وَجهنميّةُ الحادِثةِ وَمكايدُ حَوّاء.
أَتْقَنتْ فنَّها الزّائِفَ وَاصْطَنَعتْ صَفْوَ المُروءَةِ وَطيبَ المَزاجِ، وَأَبْدَعتْ تِجارَةَ القُلوبِ وَمَصْروفَ الرَّحْمَةِ حَتّى اسْتَكنّتْ في الفؤادِ أنّها إِمامُ مَلاك وَدواءٌ لِكُلّ هَلاكٍ، فَافْتَرضْتُ الآدميةَ في عَقْلِها، وَاسْتَشْعَرتُ الحَنانَ في قَلْبِها وَصَدّقْتُ كُلَّ التّرهاتِ العُرفيّةِ الّتي جَعَلتْ مِنْ حوّاء أُمّاً حانيةً وَزوجاً طاهِرةً، وَهيَ كذلِكَ فَالجَنَّةُ تَحتَ أَقدامِها. وَلَنْ أُحدّقَ كثيراً فَجُموحُ العينِ ضارٌّ بِصاحِبهِ، لكنْ ثمّةَ شُعْلةٌ في فُؤادي جُذورُها السّلامُ وَوَهجُها الإِنْسُ الكِرامْ وَنَخْلُها الصّبرُ والإيمان.
هِيَ (أَشبَهُ بِتشرينَ) الّتي طالَما داعَبْتُ وَجْنَتها وَحَنوْتُ عَليها وَأَغْدَقْتُ أَنْهُرَ عَطفٍ وَضِفافَ شوقٍ لَها، هيَ وَإِيّايَ مَنْ فَجّرنا قَداسَةَ الأَمْكِنَةِ وَرَجفاتِ الأَزمنة فَعرَجْتُ بِها حيثُ الحَمام وَاليَمام وَالكَروان موطِنُ الزّقزَقةِ الروحيّةِ وَالرّقَصاتِ النّقيّةِ بَعيدينِ عَنْ الوَسوسَةِ الشّيطانيّةِ وَالمِراءاتِ الدّنيويّةِ.
كُنْتِ ياسَميناً فيروزياً بِعَبقٍ دمشقيٍّ زَهيٍّ، فَصِرْتِ مَرارةَ الشّتاءِ وَأَفعى الصّيفِ وَأُكْذوبةَ العَصْرِ وَعَدوّةَ الصّباحِ بَلْ لَعْنَةَ المَساءِ, ضَجِرَتْ نوباتُكِ اللّعينة بينَ حَرارةِ اللّقاءِ تارةً وَقَشْعَريرَةِ الذُّهولِ وَالذّبولِ تارةً أُخرى. وَلَكَمْ أَشْرَقَتْ أَحْرُفي قِنْديلاً لِحِلْكَةِ لَيلِكِ وَسوادِ أيّامِكِ، فَأَمْسيتُ الساخِرَ وَالكاهِنَ وَأَصْبَحْتُ الحَكيمَ وَالحَكواتيَّ وَغَدوتُ الرّاهِبَ الكَهْلَ، فَتبّاً لَكِ وَسُحْقاً لِأَنَفتِكِ يا سَرابَ الغَدِ.
أَصْبَحْتِ فَراشَةً مُحالَةً ارْتَشفتْ ماءَها مِنْ كُؤوسِ الفَلاسِفَةِ وَارْتَوتْ مِنْ قَدَحِ الزَّنادِقَةِ فَتَرسَّمْتِ الأُنوثَةَ الغادِرَةَ وَابْتَلعَتْكِ مَقابِرُ الخذْلانِ الثّائِرةِ فَنَعقْتِ بِتَعاسَةٍ وافِرَةٍ ((النَّصيب... النَّصيب))...
لَفَفْتُكِ بِأَوراقِ العِنَبِ النّديّةِ وَثِمارِ النّبيذِ الزَّكيَةِ فَحَلَلْتِ نَسْمَةً بَهيّةً وَكاهِنَةً سَخيّةً وَهَربْتِ ريحاً قويّةً تَعْصِفُ بَالغِيابِ وَتُشرِّعُ العَزاءَ الأَبديَّ لِتَهْرَعَي إِلى رَوْشَتِكِ الضّيّقةِ وَتَحْتَضرينَ ذكرياتِكِ الزّائِفَةِ وَسُمومَكِ المُؤلِمَةِ وَأَقلامَكِ الجافّةِ، فَأَنْتِ أَنْتِ أَلا تَبّتْ يَداكِ أَيّتها الماجنة.
أَنْتِ اللّعنةُ الّتي سامَرَتْنِي اللّيلَ وَشاطَرَتْنِي النّهارَ، أَنْتِ الآفَةُ الّتي أَثْلَجَتِ الصَّدْرَ بِمَكنونِ الرّيحانِ، فَمَكَثْنا مَعاً... واقشعرّت أَبدانُنا لقداسةِ المكان... وارتَعشت أفئدتنا لهواجسِ الزّمان... أَنْتِ أَنْتِ عَلوتِ أو دَنوتِ... سأمنحكِ القِناعَ الّذي أَردتِ لِتَتَعري أَمامَ مَعاقِلِ الإنسانِ ومراتعِ الشّيطانِ.
وَأَخيراً اسألُ مَنْ قَسمَ بالقَلَمِ وَعافاني مِنَ السَّقَمِ أَنْ يُلْهِمَها النِّعَمَ وَيَنْحوها النِّقَمَ، وَكُلّ عام وهي بِرَمقِ الحَيرَةِ وداءِ الذّكرى".