نيس ماتان

mainThumb

27-07-2016 09:23 AM

ذات صيف كتبتُ عن صحيفة يومية عجيبة لا شبيه لها في صحف العالم، تدعى "نيس ماتان". عنوانها الرئيسي عن مهرجان الجاز في أنتيب. أو عن السعر الذي بيعت به فيلّا مارسيل داسو في "كاب فيرا". صحيفة تصدر في الشمس، بلا هموم، وبالقليل جداً من السياسة، ولا مكان لتصريحات أو خطب أوباما، أو كلام بان كي - مون، أو أي استرسال في التكرار الخاوي.
 
 
 
فجأة، حملت عناوين "نيس ماتان" أخبار الكارثة، بأسود الحداد. الخليج الأزرق الذي يهفو إليه القادمون، صاروا يفرون منه ويخشون المرور به. شاحنة أخرى يقودها حشاش آخر وتتخذ الكارثة حجم حال الحرب. تذكرت فرنسا مناخات الثلاثينات، يوم تسلل الجنون إلى المنازل الهادئة وامتلأت المدارس بأمثولات الحقد، وعامت على السطح اسماء الطوائف، في بلاد المساواة والحرية والاخاء.
محمد لحويج بوهليل قرر أن يدهس الفرح، بأقصى سرعة وأقصى العمى. أسعده أن تمر العجلات الضخمة على الاطفال والنساء. فكما اطلق أحد مواطنيه النار على رواد متحف "باردو"، وآخر على رواد مسبح في تونس العاصمة، يطلق هو الدهس على مَعلمِ جمالي آخر من معالم البهجة، الخليج الأزرق.
 
 
 
ملهى في بالي، مسرح في باريس، سياح في مطار اسطنبول، قطار في مدريد، برجان في نيويورك، مدرسة في موسكو. المجد للعدم. إنها حرب على العالم الذي نعرفه واعتدناه. النظام التآلفي الذي نشأ بعد الحربين وفَصَلَ ما بين تحضر الحياة وهمجية القتل والانتحار الجماعي.
 
 
 
يقول عالم الاجتماع العراقي علي الوردي(1) إنه كان في باريس العام 1911 نحو 300 عربي. الجالية المسلمة في فرنسا اليوم هي الأكبر في أوروبا. شاحنة محمد لحويج بوهليل تريد اعادة العالم إلى حروب اسبانيا والحروب الصليبية. مثله مثل السعودي الذي قتل والده لأنه منعه من "الجهاد". وكلما ظهر في المقابل دونالد ترامب أو مارين لوبن، أشرق الأمل في نفوس العدميين. هذا هو المبتغى. تحويل العالم إلى ساحة حرب ودمار ويأس وفوضى وعنصريات، ومن ثم، تقوم "دولة الخلافة" فوق الرماد.
 
 
 
لا مكان لصحافة "نيس ماتان". تلك هي التيارات التي جاءت إلى الاسلام من تورا بورا ووزيرستان. البلاد التي جاء منها جمال الدين الأفغاني في عصر النهضة المغتال، تجيء منها الآن تفاسير الملا عمر. وبغداد المأمون، يجيء منها الآن "الخليفة" أبو بكر البغدادي.
 
 
المشكلة كانت دائماً في أن المؤسسة الاسلامية الكبرى تغافلت عن دورها في حماية الاسلام من المعتدين على معانيه. لم يخطر لها أن هذه البدع الفاضحة قد تتحول ذات يوم إلى تيار وفيضان.
 
 
وسادت العالم الاسلامي فوضى "الفتاوى" المزعومة والدعاوى المشبوهة الدوافع. وشكَّل ذلك كله صورة مسيئة الى الرسالة عند العامة والدهماء في الغرب والشرق. وعندما قررت مؤسسات اممية مثل الأزهر، شيخه أحمد الطيب، التحرك، كانت السحب قد تلبدت وتحولت الغيوم السوداء إلى عواصف، وتوالدت الانحرافات حتى شكّلت مداً، لا جزر له في الأفق المنظور. فأس في قطار. رشاش في هدوء ميونيخ وجمالها. الفوضويون هذه المرة على الطريق السريع والمختصر إلى الجنة.
 
 
لطالما شعرت الولايات المتحدة أن الاطلسي هو سورها العظيم. خاضت حربين عالميتين من غير أن تصاب أرضها وتدمر مصانعها وتحول مدنها إلى ركام مثل برلين ودرسدن. اخترق اسامة بن لادن السور، ثم تراجع. وظل أوباما يتحصن خلف فكرة "القلعة". وخُيل إليه عندما شاهد بالبث المباشر قتل اسامة بن لادن، أن "حال الحرب" التي أعلنها جورج بوش بعد "غزوة نيويورك" قد انتهت. وكانت تصريحاته وخطبه الأولى عن "داعش" تنم عن ثقافة الهواة، على رغم فارق الذكاء بينه وبين سلفه. ولكن هل يمكن ادراج جورج بوش في أي مقياس أو قياس من مقاييس المعرفة أو الفطنة؟
 
 
 
لعبت بلادة اوباما دوراً جوهرياً في التخلف عن محاصرة تمدد "داعش". أقيمت "دولة الخلافة" ما بين سوريا والعراق، فيما كان رئيس اميركا يعض شفته السفلى، لا تبلغه اقماره، ولا يخبره مخبروه، أن مدينتين في حجم الموصل والرقة سوف تسقطان مثل خندق مهجور.
 
 
 
غرق السيد أوباما في فلسفة وشرح تعقيدات الشرق الأوسط. وكان يعض شفته فرحاً لأنه نجح في التحليل، لا في القرار. وقد أحاط نفسه بمجموعة من الهواة والمنظرين الذين لم يتعلموا النزول من الكتب لكي يتمعنوا جيداً في أعداد الجثث والمشوهين والمعذبين والمشردين واللاجئين، الذين دفعوا ثمن الفراغ البليد الذي اختارته ادارة أوباما، بعد الملء الشرير والقبيح الذي اختارته زمرة جورج بوش وديك تشيني وبول وولفوفويتز ودونالد رامسفيلد وصاحب حذاء المطاط المتغطرس والفارغ بول بريمر.
 
 
 
اقامة "داعش" ليست مسؤولية باراك أوباما. لكن تمددها هو بالتأكيد مسؤولية السياسة المطاطية التي اتبعها في كل مكان. وخصوصاً في الداخل، حيث يبدو الوضع الاجتماعي بعد وصوله، اسوأ بكثير مما كان قبله. في الداخل وفي أوروبا وفي الشرق الاوسط، يترك هذا الرجل حقولاً مزروعة بالغام الخفة وخواء الفصاحات اللفظية، التي كنا نظنها حكراً على هذا الشرق المنقضي بين اقدام حواة "الدين" ومنظري القتل.
 
 
 
يسعى "داعش" إلى اعادة عالمنا إلى عالم ما قبل المعرفة. مسعى يشبه إلى حد بعيد حملة الترييف التي قام بها ماو، وحملة رعب العودة إلى المجتمع الزراعي التي قام بها بول بوت في كمبوديا.
 
 
 
قبل أسابيع توفي الرجل الذي وضع سيناريو فيلم "الحقول القاتلة" عن أفظع عملية اجرامية جماعية في التاريخ. ايضاً بول بوت قتل أهله ورفاقه أولاً. أيضاً ستالين سعى إلى المجتمع الاشتراكي المثالي عبر الإبادات التي لا تمييز فيها. أيضاً سعت كوريا الشمالية إلى "الجنة الزراعية" التي نتج منها موت مليون مواطن جوعاً.
 
 
 
هذه الموجات الخارجة على العقل سلاحها واحد هو العنف الأعمى والقلب الأصم. حرص جزار "البرومناد دي زانغليه" ألا يسمع صراخ الاطفال تحت عجلاته. أو ربما متعه ذلك. فالذاهب إلى الجنة في شاحنة لا تهمه المحطات في الطريق. وما موت هؤلاء إلا قسط في التخلص من خمس اسداس هذه المسكونة، الكفار على أنواعهم وأشكالهم.
 
 
 
سقوط الدولة العربية سهَّل قيام المارقين. يروي الدكتور علي الوردي أيضاً ان حملة قامت أوائل القرن الماضي على الايزيديين لردعهم عن التسليم للشيطان. وقد انهالوا على هؤلاء ضرباً حتى الموت (2). وكان العدد ثلاثة، لا ثلاثة آلاف، ولا سبي ولا اغتصاب ولا بيع في المزاد، لأن الدولة كانت موجودة، ولم تكن جيشاً تفلت منه الفلوجة والموصل وثلثي سوريا والعراق.
 
 
 
كيفما تلفت في فرنسا ترى الكورسيكي بونابرت. ليس في قوس النصر وقبة الانفاليد المذهبة، بل في القوانين التي تركها. ندفع، في نواحٍ كثيرة واشكال شتى، ثمن الرفض المعلن والدفين لقيام دولة القانون. فقط في هذا الشرق يمكن أن يُصدر القضاء (المصري) ثلاثة آلاف حكم بالاعدام في غير واحد. ومن دون أن يرف جفن لأردوغان، يقيل 2000 قاض ويعتقل 60,000 شخص ويسرح آلاف من اساتذة المدارس: نحن، الصدر الاعظم، رجب طيب اردوغان، نرسم ما يلي. يليه التوقيع. في اليمن، يخوض علي عبد الله صالح دك البيوت والسدود لأن الرئاسة أُخذت منه بعد 33 عاماً. من انتم؟ من انتم؟ صرخ القذافي بعد 42 عاماً، جراذين، من انتم؟
 
 
 
أوروبا تحذر اردوغان من العودة إلى احكام الاعدام، شنقاً أو خازوقاً (مهده في تركيا) تحية طيبة، ماري انطوانيت. ستون الف معتقل أمر عادي، لكن الاعدام، اياك يا رجب آغا. هذه المدرسة الإنسانية انشأها حامل نوبل السلام باراك أوباما عندما وضع كل هيبته الدولية في وجه السلاح الكيماوي. أي قتل جواً وبراً وبحراً، ليس من شأنه. هو، اختصاصه الكيمياء، تلميذ مارتن لوثر كينغ ومسحور مانديلا. بأحرف مفرغة سوف تكتب مرحلة هذا الرجل.
 
 
 
توقفت عن قراءة "نيس ماتان" هذا الصيف. أنا كنت اقرأها حالماً بأن صحيفة فرحة مثلها سوف تصدر يوماً في لبنان. ولكن لم يعد التطلع إلى الشرق محزناً وحده، بل إلى الغرب أيضاً. أو إلى الوسط عند مضائق الدردنيل التي تربط بينهما. بعد مقتلة نيس، نزل 42 الف انسان يشيعون ضحايا محمد لحويج بو هليل. صورهم ملأت الصفحة الأولى من "نيس ماتان". ستون الف إنسان كانوا يساقون إلى السجون في تركيا. ثمة عقاب أفظع من الخطأ. كلنا في الهم شرق.
 
 
 
(1) "لمحات من تاريخ العراق".
 
 
(2) المرجع نفسه.
 
* نقلاً عن "النهار"


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد