لم يدر في خلد النملة الصغيرة المنتمية الى قرية النمل، الملقاة في طرف الوادي المعشب، أن أحدا من البشر يمكن أن يتحكم بها وبقريتها، أو يقرر مصيرها ومصير جنسها من النمل في هذه القرية الوادعة والنشيطة، حتى أنها عندما ترى قريتها الصغيرة وترى النمل يعج بالمكان، لا تظن أن عوالم أخرى تعيش في جوارها، وبلغ بها وبأترابها أنهن يرين أن السماء لا تبعد عن رؤوسهن، ولا تتعدى شفاه الوادي الذي يعشن فيه، فهي لم تشاهد الليل في حياتها ولم تر القمر المنير يجوب السماء، ولم تكن بحاجة لترى النجوم المنثورة في سماء الناس، فللناس سماؤهم وللنمل سماؤه.
وليس عندها من ترف الحياة أن تسامر القمر أو تناجي النجوم، أو يسهرها الحب والهيام، فالشمس تكفيها، مع أنها لم تشاهدها بل لمست حرارتها، واستنارت بنورها، وقبل أن تغيب الشمس، تغيب هي في جحرها لتصبح سرا من أسرار الليل والوادي.
كانت حياة النملة طبيعة مكرورة، تستقبل النهار بالذهاب الى العمل وتبقى مشغولة الى أن يسدل الليل عليها ستاره، كانت تسترق الوقت أحيانا لترى ما يحصل في "المنملة" التي تنتمي اليها، فرأت المتجبرين، والمتكبرين من أبناء جنسها ورأت بعض الصراعات بين أفراد منهم للتسيّد على المنملة، أحبت كثيرا منهم، وكرهت كثيرا، شبهت بعضهم ببعض الحشرات التي تمر بها وهي تعمل، بعضهم كالخنافس وآخرون كالجنادب، وكانت تكره الحرابي و الوزغات والسحالي التي تأكل النمل.
مر على قريتها الكثير من الحيوانات وآلمها مصير الكثير من النمل الذي سحقته بعض المخلوقات، وحاولت أن تتخيل كيف يمكن أن تكون حياة النمل في جوف طائر، لكنها لم تستطع أن تتصور ذاك المخلوق الذي انهال على قريتها بمعوله، هدمها وخرب بيتوها، لم يأكلها ولم ينتفع بأي شيء مما جمعته، لكنه جرّف التراب، وكسّر الصخور التي كانت تحتمي بها، وتركها في العراء بلا مأوى، مكشوفة الى الشمس والى كل المفترسات، لم يرحم ضعفها، أخذ كل الوادي بمياهه وأشجاره، ما ضره لو ترك لها هذه المساحة الصغيرة لتعيش بها هي ومجموعتها، ضاقت عينُه على مكانها الصغير، مع أنه لا يساوي له شيئا، وقد لا يعود له بعد أن شرد أهله، وينساه الى الأبد، ولكنه جشع البشر وأنانيتهم وحقارتهم.
المتنفذون من البشر في النظام الرأسمالي، وخاصة في بعض البلاد العربية، يجهدون لهدم مؤسسات يعتاش عليها الكثير من العائلات، لا لشيء الا لزيادة ثرواتهم، أو لإرضاء روح السرقة والاجرام لديهم، أو تنفيذا لرغبات أعداء الأمة، ولا يهمهم مصير الضعفاء ولا الى أين تلقي بهم الحياة، ما دامت أمبرطوريات مالهم قائمة.