الباقي؟ بوليفيا

mainThumb

24-08-2016 09:52 AM

أحاول أن أطبع ختمي على طبيعة الحوار منذ اللحظة الأولى. أقول للمؤرخ والمحاضر البولوني بارسونز فوجيتسو في ثقة عارمة بالنفس: ليس من بلدين متشابهين مثلكم ومثلنا، جغرافيا ثابتة وتاريخ رملي. أنتم في قلب أوروبا المتصارعة، ونحن في قلب الشرق المتحول.
 
 
 
 
بدوره يحجّم الاستاذ فوجيتسو الحوار منذ اللحظة الأولى: وهل انتم أيضاً فقدتم ستة ملايين إنسان في الحرب؟". لا ضرورة للمقارنات، إذن. لكن المستشرق الباحث في شؤون العالم العربي والمختص في لبنان منذ بولونيا الشيوعية مضى بالحوار بكل جدية وأكاديمية: "يخيل إليَّ أن لبنان اليوم مثل بوليفيا السبعينات. مرة تغير ستة رؤساء في ثلاثة أيام ولم يتغير شيء. الضعيف لا يريد مسؤولية المضاعفات، والقوي ليس مضطراً الى تحملها".
 
 
 
 
عندما قلت إننا نشبه بوليفيا، هل قصدت الوضع المشابه مع الجوار؟ "إلى حد بعيد، دائماً كان هناك فريق يقول بأنه يجب اعطاء بعضها البرازيل. وآخر يقول باعطاء جزء للأرجنتين، وآخر للبيرو. لكن المسألة أنه عندما تولد دولة، لا يمكن أن تغيب. كل واحد يهدد الآخر بالآخر، لأنه في النهاية، يريد كل شيء لنفسه. لا تصدق حكاية التنازلات والاندماج مهما ارتقت الشعوب. إليك ما يحدث في أوروبا بعد بريطانيا".
 
 
 
هل نحن مجرد بوليفيا أخرى، لا أكثر، في الميزان الدولي اليوم؟ " لا أدري. الذي أعرفه بالتأكيد أنكم لستم بولونيا. بعد الحرب أبيدت فرصوفيا، هذه التي أمامك، ابادة تامة. وقيل إنه لا يمكن أحداً ان يعيد بناءها من جديد، فلبتن عاصمة جديدة كلياً في لودز. لكن أحداً من البولونيين لم يقبل ذلك. أصروا على استعادة الحجارة واحداً واحداً، وإلا فإن العاصمة الجديدة سوف تكون بلا روح أو تاريخ. هكذا كان وزراء الحكومة يعملون في مكاتبهم طوال الأسبوع، ويوم الأحد يتحولون إلى عمال بناء يحملون الحجارة على اكتفاهم".
 
 
 
عندما كنت لا تزال باحثاً في الحزب الشيوعي، هل كان يُخيل إليك أن العالم العربي سيصل إلى ما هو فيه؟ "أنا كنت مع الفريق المتشدد في الحزب. وكان اختصاصي متابعة مصر. لم يكن احد منا يتوقع انهيار الشيوعية. لكننا كنا نشعر أنه عندما ينحسر جيل الكبار سوف يتراجع الشعور الحقيقي حيال القضية الفلسطينية. كل واحد فينا كان يشعر بالمسؤولية عن الظلم الذي لحق بالفلسطينيين، وأيضاً بالاكراد، وكنا نعتقد أن "المسألة الشرقية" سوف تجد حلولها في سياق آمنٍ ومزدهر؟".
 
 
 
ماذا حدث؟ "بوليفياً! ستة رؤساء في ثلاثة ايام. تلامذة المدرسة الحربية يتحولون إلى اساتذة تاريخ. حماسة صادقة ومعرفة معدومة. شاعر على رأس دبابة. حاولنا كثيراً مع رفاقنا العرب إدخال المنطق على طريقة التفكير. لم نهدف مرة إلى تحويلهم شيوعيين، بل مهندسين وعلماء. عند أول امتحان كان ينتصر الشعر وتهزم الجيوش".
 
 
 
لقد تدربت معظم الجيوش العربية عندكم فما سبب انهيارها؟ إليك ما حدث في العراق بعد احتلال الكويت، ثم بعد احتلال اميركا للعراق. "هناك أكثر من مسألة في هذا الموضوع. الجيش الذي احتل الكويت كان منهكاً في ايران. والجيش الذي واجه غزو بغداد كان منهكاً في الكويت. وضع العراق جيشه طوال عقد في حرب وضحايا وهروب ونحو مليون قتيل. لم يصغ إلى نصائح حلفائه في الشرق. دولة مقاتلة لا تنام".
 
 
 
ما الذي يجعل قوة من الطيران الروسي والجيش السوري وحلفائهما تعجز عن التقدم في حلب في وجه قوى غير نظامية؟ "الروس – وحلفاؤهم – كانوا مبشري حروب العصابات. وكانوا يَسخرون من الاميركيين في الفيتنام وجنوب شرق آسيا، ما كان يعرف قبلها بـ"الهند الصينية"، ويقولون إن "حروب العصابات" سوف تهزمهم. بعد ذلك، خاضوا حرباً مماثلة في أفغانستان وخسروها. والآن "يكتشفون" ما ايقنه الاميركيون من قبل: مهما كانت القوة الجوية طاغية، كان يظل ممكناً ارباكها من الأرض. هذا ما حدث في حرب حلب. لقد جمع المعارضون كل دواليب المطاط في المنطقة واحرقوها بحيث غطى الدخان الاهداف. ليس هذا ما ربح المعركة لكنه غيّر اتجاهها".
 
 
 
هل لديكم شعور في شرق أوروبا بأن حرب المنطقة سوف تطول؟ "لا تطرح هذا السؤال على اوروبي، وخصوصاً على بولوني. نحن لم تنته حروبنا إلا بعدما انتهت أوطاننا وشعوبنا. لقد عدتُ ورأيتُ كمراسل، فرصوفيا أخرى في بيروت ولواندا وسري لانكا ورواندا. ولم يكن كل ذلك شيئاً. كل قاتل يهيئ وشمين، الأول لنفسه كبطل، والثاني لعدوه كخائن. وفي النهاية لا يعود الفرز في المدافن الجماعية مهماً أو دقيقاً. ويمنعون الحزن لأنه يعيق سَير القوافل. الحروب جنون المرضى".
 
 
 
هل ترون في شرق اوروبا أن خريطة جديدة سترسم في المنطقة؟ "السؤال مغر دائماً لأنه مجاني وغير مكلف. سايكس - بيكو مائة عام، ثم لا سايكس - بيكو. انظر إلى الأرض وإلى السماء: الطائرات التي قصفها اردوغان تواكبه إلى بطرسبرج. ايران وتركيا وروسيا ودمشق في دائرة واحدة. أوباما يلفلف أوراقه كأنه كان رساماً يصور المشهد. حلف شمال الاطلسي الذي عماده تركيا يشعر أن اسطنبول ذاهبة نهائياً إلى عالم اسلامي تقيمه بنفسها. اردوغان حائر بين أن يعلن نفسه خليفة أو سلطاناً أو الغازي أتاتورك. هل هو سند الدول السنية أم حليف قم؟ أين هم الاكراد بعد زيارة اردوغان لبوتين؟ وكيف سيتصرف الرئيس الاميركي المقبل؟ هل سيكمل رحلة الخروج أم سيحول القوات الاميركية إلى جيش يعمل بالاجرة كما يطالب ترامب؟ لم يعرف العالم مرحلة من الضياع الاستراتيجي منذ عشية الحرب العالمية الثانية مثل اليوم".
 
 
 
هل ترون في أوروبا الشرقية معالم مخرج ما من حروب الشرق؟ "في الماضي كانت لنا أهداف سياسية وايديولوجية. الآن لم نعد نحن اشتراكيين، ولم يعد العالم العربي ما كان. هناك فوضى دينية وطائفية وزوال شبه مطلق للعناصر والقوى المدنية. وفي المقابل، هناك طموحات نفطية تتزعمها روسيا بدل الغرب. لكنها تتزعم صناعة مكسورة الحال. في الماضي كان يقال عن كل حرب أن وراءها المصالح النفطية لأميركا. الآن مفاوضات الغاز تجري في موسكو. وفي حضور اسرائيلي".
 
 
 
هل تعتقد أن في امكان روسيا أن تشكل قوة رأسمالية تحل محل القوة الغربية كما يحدث في السياسة؟ "ليس هناك من تجربة ناجحة في الماضي، لا أيام الامبراطورية ولا أيام السوفيات. والآن لا نعرف ماذا يمكن أن يشكل الحلف الروسي - الصيني في المستقبل. هناك تفوق صيني طاغ، لكن الشريك الروسي لم يصل الى المرتبة الأولى في أي سباق صناعي أو علمي منذ ان كان الأول في بلوغ فضاء الأرض".
 
 
 
هل انتم خائفون على أوروبا من الاضطراب بسبب توترات الهجرة والفقر؟. "الخوف قائم قبل موجة اللجوء بكثير. دائماً تعود إلى الذاكرة حروب الماضي. اردوغان تعمد بكل وضوح مهاجمة النمسا دون غيرها، لكي يذكر بأن العثمانيين وصلوا الى الدانوب. مصادر الحساسيات لا تكف عن التكاثر، وهناك من يحركها. لكن الخوف من اي تحول جوهري تركي، أكثر إخافة بكثير. لقد كانت المانيا حليفة تركيا منذ أيام الامبراطوريتين. والعلاقة بينهما تقريباً في حجم العلاقة مع أي دولة اوروبية. يكفي أن يتظاهر الفريقان التركيان المتعارضان لكي تشعر برلين بالخوف. كانت أوروبا تأمل في أن تتسع عملية الاندماج قبل اتساع الهوة. لكن موجة الهجرة الأخيرة أعاقت كل شيء".
 
 
 
تعذرني أن اعيدك دوماً إلى شؤوننا في لبنان. ليس أحد منا من السذاجة بحيث يتفاءل أو يظل مؤملاً في شيء، ولكن هل فقد كلياً ذلك العطف الذي كان له في المستشاريات والمؤسسات؟ "أقام جنكيز خان، اكبر امبراطورية في التاريخ. افراس وسيوف وحوافر. ماذا بقي؟ مراعي الإبل في منغوليا. اشور وبابل والفراعنة وروما واسبانيا والعرب والصين، استمروا من خلال حضاراتهم. لبنان كانت له مكانة خاصة لأنه مدخل إلى معالم الثقافة العربية. كنتم حالة ثقافية في قلب المشرق تتحدث لغات العالم. لكم وجود في كل الأرض كتجار وشطار وشعراء وفن. دولة صغيرة مهاجروها أضعاف أهلها. والآن ماذا؟ دولة ثلثاها مهاجرون. وأمين معلوف وحده لا يكفي. الدول التي تموت ثقافياً تزول حضارياً. فرنسا البونابرتية لم تبق بمعاركها التي لم يعد الناس يعرفون اماكنها، وإنما بإرثها الحضاري. اخترعت المدام دو ستال في رسالة لها من اميركا، شيئاً يسمى "الرأي العام". جملة تحوّلت إلى علم كامل. ما هي نسبة الناس التي تعرف من هو شكسبير ومن هو مونتغومري؟ كنتم صلة نادرة وجميلة بين الشرق والغرب. الآن أين الغرب وأين الشرق؟ عندما كنت صغيراً في شرق بولونيا كانت الهجرة ممنوعة، لكنني أذكر أن كثيرين كانوا يحلمون بالسفر إلى بلد هادىء وجميل يدعى لبنان. والآن عندما أذهب الى بيروت فقط، لأنها موضوع بحث، اشعر كم ان العالم يتغير دون التفات إلى شيء. هناك بقايا هنا وهناك. وبعض الاصدقاء. وبعض الزملاء من الاساتذة. وهناك طبعاً، الساحل المعلق بالجبل".
 
 
والباقي؟ "بوليفيا".
 
 
صحيفة الشرق الاوسط
 
** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد