التّمسرُح والأسرَلة والتّسوية .. : غزّة في ثلاثِ كلمات

mainThumb
REUTERS

19-11-2023 09:54 PM

 

حينَ يستيقظ السياسيون من النّوم، بعدَ انتهاء "المجزرة"، يُخرجونَ بياناتهم القديمة من الدُّروج، يشطُبونَ (مستشفى المعمدانيّ، أو الشفاء، أو الرنتيسي، أو..)، ويكتبونَ مكانها (مدرسة الفاخورة ومدرسة تل الزّعتر)، وينوِّعونَ بينَ ثلاثة خيارات: (الإدانة، التنديد، الشّجب)، وربما يضيفونَ إليها كلمة الشّديدة، أو شعورهم بــ(الصدمة، أو الغرابة، أو الحزن). وهكذا في بياناتِ القمم، وبيانات الأمم المتّحدة، و..إلى آخره. وتمرُّ المجازِر فقط على رؤوسِ مَن تحتها وحدهم. فالعالمُ قامَ بما عليه وأصدَر بيانًا، والعربُ قاموا بما عليهم وأرسلوا أكفانًا، أمّا رام الله فإنّنا (سنتوه) لا (نَتيه) فيها من بَعد، إذْ اتخذت قرارًا جريئًا بإزالة اسم هنغاريا عن أحدِ الشّوارع؛ لأنّها صوتت ضدّنا في القرار الذي "لا لزومَ له".

«في خانيونس وليسَ في الشفاء»

هل (سمِعَ) أحدٌ ما قالَهُ مدير مستشفى الشّفاء؟..: "إنّها أهوال يوم القيامة، ننتظر الموت، 7 آلاف (إنسان) يموتون جوعًا وعطشًا ومرضًا، الدّود يخرج من جراح المرضى، الاحتلال أخذ الجثامين إلى مكان مجهول، الاحتلال يواصِل استهداف وتفجير أقسام المستشفى، 48 ساعة ولم يُطلق عليه رصاصة واحدة من داخل الشّفاء، رائحة الجثث والجراح، لا يوجد مكان لوضع الأعضاء المبتورة، الأطفال الخُدج يموتون، الحصار يطال مستشفيات أخرى كالمعمدانيّ"... لم يحرّك أحدٌ ساكِنًا، وأخلِي أغلبُ النازحين من مستشفى الشّفاء، ويبحثُ "النّازيونَ الجُدد" داخله عن مكانٍ مناسبٍ لتمثيل المسرحيّة القادمة حولَ مقرّات المقاومة، أمّا "أولمرت" رئيس وزرائِهم الأسبق فعلَّق: "لو سألتموني من قَبلْ لقلتُ إنّ المقرات في خانيونس".

«إنّنا لا نموت بشكلٍ جيّد»

هل (يسمعُ) أحدٌ ماذا يقول النازحون في الجنوب؟، هل يسمع أحدٌ أنّ الاحتلال سيكمل الاجتياحَ في الجنوب؟ هل يسمعُ أحدٌ صراخ الأطفال؟ هل يُفكر أحدٌ أصلًا كيفَ سيصبحُ هؤلاء الأطفال حينَ يكبرون إنْ حالفهم الحظّ بالنجاة؟ هل تسمع دول القمّة؟ ودول "الإنسانيّة"؟ هل يسمع الذين يُبدعون في "لومِ الضّحية" أنّها لا تموت بشكلٍ جيّد وتُخلِّصهم، وأنّها تجلبُ الموتَ لنفسها داخِل السّجن الأكبر في العالم ولا تقتنِع بحياتِها المُذلّة داخِله، بل وأنّها "تآمرت على نفسها لقتلِها"، وأنّها تجلِبُ "وجع الرّاس" للعرب والعالم وتحاوِل هدمَ جهودهم الكونيّة للسّلام مع "إسرائيل"، وأنّه تمَّ تقديم كلّ الدعم بالكلام لها، وأنّ عليها أن "تصمد" بلا كهرباء ولا ماء ولا مأوى ولا طعام" ريثما ينتهي الاحتلال من إبادتها، لكنّها للأسف وللغرابة تريدُ أرضها وتريد أن تعيش بشكل "إنسانيّ"، أو تريد أن تعيش فقط، ولكنّها للأسف "لم تأخذ الجرعة الكاملة" من الذِّلة والمَسكنة التي ضُربت على "خير أمّة أخرجت للنّاس" وليسَ على "بني إسرائيل".

«الأسْرلَة.. ودعوات الحَرْق»

بعدَ (السماح) بشاحنتيْ وقود لـ"الهيئات الأمميّة"، قامت القيامة في دولة الاحتلال، والتي فعلًا لن يستطيع أحدُ لجمها من الآن فصاعِدًا. وبعدَ دعوة الوزير المتطرّف لإلقاء قنبلة نوويّة، يقول النائب عن حزب "الليكود" نيسيم فاتوري: إنَّ «الانشغال "الإسرائيليّ" في صفقات مع حَماس، وفي انقطاع الإنترنت أو إدخال الوقود، يدل على أننا لم نتعلم شيًا. نحن "إنسانيون" أكثر من اللازم، غزة يجب إحراقها بالوقود وليس إدخال الوقود إليها»، فيما وزير ماليّة الاحتلال المتطرّف بتسلئيل سموترتش، يقول: «لا يزال يحيى السّنوار قادرًا على إجراء مفاوضات، وتحديد شروط إطلاق سراح "الرهائن"...من الآن فصاعدًا نحن فقط مَن يضع الشروط... حتى يركض هو وراءنا ويتوسل لعقد صفقة معنا».
وفي نفس السّياق ربّما، تنشَط صفحات للاحتلال بنشر خرائِط للمنطقة بعدَ الحرب، و"مملكة إسرائيل" تضمّ الضفّة كلها وأجزاءً كبيرة من الأردن، وتدعو الفلسطينيين للهجرة. ليسَ فقط لأنّ الاحتلال لديه دائمًا أهدافٌ توسعيّة، ويستند إلى "نبوءاتِ إشعيا" التوراتيّة، بل لأنّه "لن يجدَ أبدًا" ظرفًا مواتيًا أكثر من هذا للمضيِّ قُدمًا في الإبادة والتّوسع والتّهجير، و"لم يجِدْ" طيلة فترة "وجوده" فوقَ أرضنا مرحلة "فاسِدة وذليلة" مثل هذه، يمشي فيها الجميع دولًا وأفرادًا وأشباه دُوَلْ بمبدأينِ أساسيين: "ما مقدارُ خسارتي الشّخصية المتوقّعة جرّاء أي موقف؟"، أمّا الثاني فهو: "بقْدرش على الحمارْ وبَتْشاطَرْ على البردعة"، و"البردعة" هي ما يوضَع على الحِمار، لكنّها في حالتنا قد تكونُ الضّحية نفسها، أو "كلّ قضايا الأرض" الجانبيّة، أو لاعب كرة، أو مقدِّم برنامج، أو عارضة أزياء، أو قناة تلفزيونيّة، أو... إلى آخره. وعلى الطّرفِ الآخر من هذين المبدأينِ يبدو فريقٌ وحدَهُ، تمّت "أسْرَلَةُ" عقله ووجدانه كُلًا وتمامًا. 

«معانٍ كثيرة في العربية لكلمة التّسوية»

بعدَ 43 يومًا.. مِن "الفُرجة المباشرة" إلى "تجنُّب الفُرجة".. وأخشى أن يصبِحَ خبرُ الشّهداء الذينَ لم يعُد بإمكان أحد إحصاءهم، أو الشهداء المحتملون الذين "يصرخونَ عطشًا" خبرًا يوميًا روتينيًا يمرُّ في ذيل نشراتِ الأخبار. وفيما يتحدّث العالم عن "تسوية" للوضع الفلسطينيّ، فإنّنا لم نعد نعرف إذا كانَ يقصدُ بها تسويةً سياسيّة (POLITICAL SETTLEMENT)، أو "تسويةُ" مدن القطاع بالتراب والأرض تمامًا، بمعنى (FLATTENING IT)، "حتى تصبح صعيدًا جُرُزًا" وأرضًا مستويةً، (كما أشار الصحفيّ بكر عويضة في مقالٍ له)، أو "تسويةُ" القضيّة كلّها بمعنى إنهاؤها كُليًا، أو "تسويةُ" حسابِ المُحتلّين التوراتيِّ مع أطفالِ "الأغيار"، بمعنى الانتقام... وليسَ إلّا الله.. "الذي خلقَ فسوّى".. قبلَ أن نُصبحَ بأيدينا "غُثاءً أحْوى".

«الإنسانْ كائنٌ متمسرح»

 يبدو أنَّ هناك رغبات حقيقيّة عندَ كلِّ (إنسانٍ) ليكونَ "مُخرجًا مسرحيًا" أو "ممثِّلًا". فما بينَ مسرحيّات جيش الاحتلال سيئة الإخراج.. سيئة التّمثيل (هل يُمكنُ احترافُ القتلِ والإخراجِ المسرحيِّ معًا؟) ليبرّر فشله في إيجاد أيِّ شيء في المستشفيات، وما بينَ مسرحيّات ما يسمّى "مجلس الأمن الدّوليِّ" حينَ استصدَر، بعدَ 40 يومًا، قرارًا يهدم نفسَه من الدّاخِل، وهو غير ملزِم التّطبيق أصلًا، إلى القِمم العربيّة، وجلسات الأمم، وجولات "اللّهيان" التي يلهو بها وبِنا، ومؤتمرات "زوجة إردوغان"، وفتاوى "شيوخ السّلاطين"، وكتاباتِ "الجرائِد" التي "تخلعُ أثوابها الداخليّة" على رأي نِزار قبّاني، وإلى العنتريّات والتّشفي والخذلان والفُرجة والتنظير والتّضليل واحترافِ افتعالِ المعارك الجانبيّة والتفكير في "المابعديّات"، و(التّمسرح العام) فوقَ جُثث الفلسطينيّ الذي يذوقُ كلَّ أصنافِ الموت، والمكدَّسة بلا مدافن ولا أكفان (رجالية ونسائية) وتنهشها الكلاب والطيور وتدوسها الدّبابات، تبدو الحياة، أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، مسرحيّة كبيرة جدًا، مليئة بالممثلين والهواة والمتفرِّجين، تنتمي لما اصطلح على تسميته "مسرَحَ العبث"، ولا "غودو" في الأفق حتّى، إذْ لم يعُد أحدٌ ينتظرُ شيئًا.. سوى الجالِسينَ تحتَ احتمالاتِ الموتِ ينتظرونَ نجاتهم المشكوكَ بها، ومصيرهم المجهول، وسوى "المقاتِلينَ" بما تبقّى للبشريِّ من كرامة وقوِّة حتّى الرّمق الأخير.

أمامَ كلّ هذا: التّوحش، الجنون، الجُبْن والهوان، التّعامي، التّحشيش السّياسيّ.. وأشياء أخرى، يستمرُّ العدوان، ولم يعُد بالإمكان إحصاءُ مشاهد القهر التي تهزُّ الدنيا، ولعلَّ من أشدِّها: "طفلة بتروا أطرافها الأربعة بلا تخدير"، ولا نعلمُ أنحزَنُ (لا أعرفُ إذا كانَ هذا تعبيرًا مناسبًا أصلًا) لأنّها طفلة أو لأنّها فقدت كلّ أطرافها، أو لأنّها جرّبت ألمًا لا يحتمله بشر، أو لأنّ ألمها لم يحرك شيئًا في هذا العالم.

* كاتب فلسطينيّ

 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد