رُوح الرّوح

mainThumb

25-11-2023 01:08 AM

قبل أربع سنوات من الآن تزوّج علي من عائشة في دير البلح في القطاع الّذي يقصفه العالم المتحضّر بكل أنواع الورود الديموقراطية منذ ما يقارب الخمسين يومًا، كان علي وعائشة يحلمان كما كلّ الأزواج بأن يكون لهما أولاد وبنات وبأن يعيشوا جميعا بأمان، لكنّ العيش بأمان في سجن القطاع الكبير الّذي تحاصره دولة العسكر بدعم من الغرب أمر شبه مستحيل، ففي كلّ يوم ودون سابق إنذار هناك اغتيال أو قصف ومن لم يمت بالقصف مات قهرا، هذا هو حال القطاع منذ أكثر من ست عشرة سنة، وازداد احتمال الموت بنسبة كبيرة في الخمسين يوما الأخيرة.
كانت حصيلة زواجهما ولد وبنت، البنت هي المولود الثاني وقد أسمياها ( ريم)، هي ريحانة الدار حبيبة جدّها هي كما أسماها جدّها ( روح الرّوح) تعلّق بها وبه تعلّقت فصارت قطعة من كبده، وهل أغلى من الولد إلا ولد الولد، كانت حين تصحو صباحا تهروّل نحوه وتتربّع في حضنه الدافئ الحنون، فيغلغل أصابعه في شعرها المنساب، ويظفّر جديلتها، ويطبع قبلة على جبينها كل حين، فتفرح وتزيد من دلعها عليه فتطلب ما تريد، فيكون الجواب : " حاضر يا جدو" ، تمسك بيده فيقوم معها دون تردّد إلى البقالة فتختار ما تريد، وما على الجدّ إلا الدفع، كلّ ما تطلبه مُلبّى دون نقاش، وفي أيّ وقت من اليوم، وكان جدّها لشدّة حبه لها يُخبئ بعض السكاكر والحلوى الّتي تحبّها في غرفته؛ فالطلب قد يكون في منتصف الليل، كان إذا صلّى تصّلي إلى جانبه، تُتمتم وتركع وتسجد وترفع إصبعها متشهدة، وكانت ما كانت تغافله فتعتلي ظهره وهو ساجد، وما أن يُنهي صلاته حتّى تركض إلى حضنه فتجلس مطمئنة.
في العدوان الغادر الأخير كان الجدّ كثير القلق عليها وعلى أخيها، يحضنهما كلّ لحظة ويضمهما إلى صدره وكأنّه يودّعهما، في ليلة الوداع لم تغفُ عيناه، فقد نامت ريم قريبة منه، وكان يطمئن عليها كل لحظة، يقوم من فراشه ينظر إليها وإلى أخيها، ويعود إلى فراشه وعبثا يحاول أن ينام، وكيف لأهل غزة أن يناموا فالنوم عليهم محرّم بأمر من دُول العدوان، وبأمر المتشدّقين بحقوق الإنسان، خلال محاولاته العابثة للتغلّب على القلق والأرق سمع صوت الطائرات أيقن أنّ لحظات عصيبة قادمة، فأين المفر؟ في غزّة لا مفر من الموت إلا إليه، سقط صاروخ غادر أرسله جندي يهودي كان والداه قد قَدما من أبعد بلاد الله ليحتلّوا هذه الأرض، أرسل الصاروخ وأرسل معه حقده وغلّه، تدمّر المنزل وصار كومة من رُكام وحطام في ثوانٍ قليلة، تلقّى الصدمة الأولى وبعد يتحسّس حوله، كانت أصوات المصابين الذين نجوا مؤقتا تتعالى من تحت الركام، صراخ أطفال ونساء وشيوخ وشباب، وهبّ الجيران الذين نجوا أيضا للبحث عن ناجين تحت الركام، ففي غزة الناجي يبحث عن ناج آخر، وأبو الشهيد وأمّه يبحثان عن أحد الأبناء الذي لم يحن دوره في الشهادة، وسط كل هذا كان الجدّ يبحث عن طارق وريم، قال: الحمد لله هذا طارق حيّ، زاد في بحثه، وكرّر الحمد لله هذه هي ريم، حملها رفعها نادى: ريم ريم، يا روح الروح، حاول فتح عينيها ليتجاوز الصدمة لعلّها ما زالت على قيد الحياة، ريم ريم ريم، رفعها قلّبها يمينا شمالا، يا روح الروح" شو بدّك أجيبلك؟" ضمّها إلى صدره تنهّد تنهيدة عميقة أغلق عينيها حمد الله كثيرا، وقال: " كانت روح الروح، شو بدها بجيبلها، كانت أول وحدة تجيني من الصبح" أغمض عينيها، مسح شعرها للمرة الأخيرة، ابتسم ابتسامة خفيفة وراءها ما وراءها ومضى.
في غزّة لا تعرف مَن يودّع مَن، فالمودِّع قد يكون مودَّعا بعد لحظات.






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد