مَاخَفِيَ مِن دُرَرِ الرِّيف

mainThumb

26-12-2023 02:09 AM

عجيب أمر تلك السيدة، بدت وكأنها مهمومة حينما سألتها ماذا يعني لك الجمال فزفرت زفرة طويلة تكاد تسكن لها حركتها وأجابت "هو أن يتركني الناس أياما لوحدي من دون إزعاج، لأصنع بيدي هاتين زربية بألوان مشرقة، تسعد الناظر إليها،فيراها جميلة..؛ الجمال ما نفقده ونشعر بالحاجة الماسة إليه، ثم نحيا من جديد بمجرد الحصول عليه أو حتى على بعض ملامحه، لا أخفيك أنني أفقد نفسي أحيانا وأنا أبحث عمن يعترف بحرفتي (نسج الزرابي)، أفقد جمالية ما تصنعه يدي وأنا أبحث عمن يشتري تلك التحفة الفنية المنسوجة، والتي لايراها أغلبهم تحفة بقدر ما يرونها معروضا زهيد الثمن، يستوجب الظفر به"من كلام خديجة.

لا أدري إن كان بمقدوري أن أكون منصفة من حيث ذكر أكبر قدر من الأسماء في كتابتي هاته التي ابتدأت بنبذة عن الجمال، بعدما أستشعرت مدى التبخيس الذي لحق ما اكتنزته المرأة الريفية من مهارات طوال عقود من الزمن..؛ مهارات وصعوبات تحدثت عنها نساء دوار توزلت بجماعة سيدي بوتميم بإقليم الحسيمة أثناء ورشة المواكبة النفسية التي تشرف عليها مؤسسة الأطلس الكبير، وهو ما جعلني أرغب في البحث بين طيات الكتب لنكتشف معا تلك الدُّرَر المخفية من النساء الريفيات، ليس عن الغرباء فحسب، بل عن العديد من أبناء المنطقة أنفسهم !

إن تلك المصنوعات التي جادت بها أيدي النساء الريفيات عبارة عن متحف رائع، وحي من حيث تقنياته، يضم التقاليد والأفكار التليدة العجيبة بشكل مدهش وجذاب. أما عن تفاصيل صنعها، سواء تعلق الأمر بالتنسيق أو حيثيات التزيين أو الأشكال الهندسية أو الألوان الأولية والصباغة التي كانت تلون بها خيوط الصوف أو أحيانا من شعر أو وبر الحيوانات، فتتميز بالبساطة المطلقة البعيدة عن كل التعقيدات، وقد تم توارثها عبر الأجيال لتحافظ على صيغتها إلى الوقت الراهن.
إن من أهم ما تميزت به المرأة الريفية أيضا صناعة الفخار الذي يعتبر مظهرا فنيا محضا، لأجل ذلك لازال البعض منهن يطمحن إلى إنشاء ورشات لباقي النسوة لتعليم هذه الحرفة للجيل الصاعد، باعتبار ذلك أفضل طريقة للحفاظ على تراث المنطقة، ناهيك عن ما توفره هذه الحرفة من مقومات من شأنها أن تطور اقتصاد القبيلة.

وقد أبدى المهندس المعماري الاسباني إميليو بلانكو إعجابه الكبير خلال بحثه عن صناعة الفخار بالمنطقة، وأشاد ببعض من إشتهر بذلك في قبيلة "إبقوين"، كالحاجة عائشة بنت الحاج محمد بن شعيب وابنتها، ولويزة بنت الحاج اللوه (2) ، فهاتان السيدتان تعتبران نموذجا للريفيات اللواتي دفعن ببناتهن إلى تعلم الحرف، إذ هكذا يكرس الإبداع وتُتوارث الثقافة.

ما يميزهذه الحرفة بالريف أنها كانت حكرا على النساء؛ وذلك لحاجتهن لأواني منزلية يوظفنها في أشغالهن اليومية، وقد كانت هذه الأواني تزين برموز وأشكال متنوعة، كالنقاط المتجاورة والخطوط الخماسية، والعديد من الرموز التي تشكل بعضا من أشكال اللغة السرية لدى المرأة الريفية...!

تتقاطع جل تلك الإنتاجات الفنية التي تنتجها أنامل الريفيات في مشترك ثقافي، يتحدد في"الرمزية الممتدة"(3) العابرة للحِرَف، لأن اللاوعي الجمعي للمرأة الريفية خزّن علامات عديدة تعج بالدلالات، وأرشدها لتزيين جسدها، وصوفها، وخزفها بنفس الرموز، وهي رموز تدل على الماء والهواء والنار والتراب و الشمس، والنبات، إلخ... بالإضافة الى رموز أخرى وكأنها من اللغة السرية للمرأة.

أما عن مكانتها داخل مؤسسة الأسرة، فإن المرأة الريفية تعد رائدة بالنظر لتعدد الوظائف الملقاة على كاهلها. لقد كانت هذه الدرر من النساء تواظبن على الأعمال الروتينية اليومية، من العناية بالزوج والأطفال والبيت من خلال إعداد الطعام، وطهي الخبز في التنور إلى طحن الحبوب، وجلب الماء والخشب، والكلأ للبهائم، وغسل الملابس... كما أنهن يسهمن في القيام بالأعمال الفلاحية بدءا من عمليات الحرث إلى الحصاد (جلب التبن من البيدر إلى المنزل، نقل البذور وزراعتها، تنقية الحقل من الأعشاب الضارة...).

لقد عاشت المرأة الريفية حقا في انسجام وتناغم مع الطبيعة المحيطة بجبال الريف، وتكيفت مع محيطها الذي استمدت منه موادها الأولية في التنظيف مثل "أذجيان"(4)، ونظرا لندرة الماء الذي تعاني منه ساكنة الريف، فقد اضطرت الريفية إلى غسل ملابسها في الينابيع المائية.
لم ينحصر تميز المرأة الريفية في الابداعات اليدوية والأعمال المنزلية فحسب، بل إن المتتبع لتاريخ التعليم بالريف تنكشف أمامه إشارات عدة تؤكد انخراط المرأة الريفية في مجال التعلم والتعليم منذ قرون عديدة، وقد ساعدها في ذلك عدة عوامل لعل من أهمها حرص علماء المنطقة على تعليمها وتنويرها.

وقد عرف في هذا السياق عدد من العلماء الذين حملوا مشعل التنوير، فركزوا جهودهم على توجيه الناس وإرشادهم إلى تعليم نساء الريف، ولعل من أشهرهم الشيخ عبد الله الهبطي(5) الذي عرف عنه أنه كان يصرخ بشدة في وجه الذين يعملون على انحراف المرأة، أو يساعدون على ذلك، وفي وجه الذين يعملون على تركها غارقة في الجهالة. ولم يكن نضاله في هذا الباب بالقول فقط، بل كان بالفعل أيضا إذ يذكرأنه خصص جناحا خاصا للنساء بزاويته، كان بمثابة معهد لتعليم النساء أمور دينهن.

ولم يكتف الرجل بهذا، بل إنه أوكل مهمة الإشراف الإداري والتعليمي لهذا الجناح من المعهد الذي كان يعرف بمعهد المواهب - إلى زوجته السيدة آمنة بنت الفقيه علي بن خجو، والتي كانت تتولى فيه أيضا تعليم النساء ما يتعلق بأمور الدين والدنيا(6) ، وقد عرف هذا المعهد بكثرة من تخرج منه رجالا ونساء، وبرصانة المواد المدرسة فيه.

إن تتبع الأسماء التي برزت من نساء الريف في مختلف مجالات المعرفة يحتاج إلى جهد ووقت ودراسة، لكن حسبي في هذه المقالة التمثيل ببعض النماذج التي تيسر لي الوقوف على سيرها عقب الاستلهام الذي استشعرته أثناء ورشات المواكبة النفسية، بعدما كنت أستبعد -عن مماطلة غير مقصودة- التعمق في البحث عن حقائق انجازات تلك النسوة، وأنا أرى بعض التهميش الذي طال تلك الدرر الريفية من حيث التعريف بها.

ففي مجال علم الفقه برز عدد من النسوة بالريف، احتفظت كتب التراجم بأسماء بعضهن، ومنهن السيدة آمنة بنت علي بن خجو، وقد كانت هذه السيدة فقيهة عالمة، راكمت معارف جمة من خلال بيئتها، وهي من منارات المغرب العلمية. إذ أشاد بذكاء وتحصيل هذه الفقيهة محمد بن عبد الله الهبطي، وذكر أنها كانت تحاور زوجها عبد الله الهبطي محاورة علمية، وتسأله أسئلة دقيقة في موضوعات مختلفة، ونقل اعتراف الناس بأنهم استفادوا من علمها ومن جودة إدراكها (7) ومن فقيهات الريف أيضا السيدة للاغيلانة والسيدة خديجة بنت عبد الله الحوات وعالمة بني زروال السيدة عائشة بنت أحمد الشريف العلوى. (7)

وإذا تحدثت عن مجال علوم الحديث، وجدت للمرأة الريفية فيه نصيب أيضا، وقد إشتهر من النساء فيه: أم المجد مريم بنت أبي الحسن الشاري الغافقي، درست علوم الحديث، واهتمت بروايته وإسناده ولأجل ذلك وصفها محمد بن القاسم السبتي الأنصاري بـ "العجوز المسندة".

وقد عرف إلى جانبها في باب العناية برواية الحديث الشريف كل من ست العرب بنت عبد المهيمن الحضرمي السبتي وأمة الرحيم السبتية(8).

ومن الفروع المعرفية التي اقتحمتها المرأة بالريف أيضا علوم الطب وصناعة الأدوية ولحسن الحظ أن بعض الكتب قد احتفظت لنا بأسماء نساء لهن باع في هذا الباب، منهن الطبيبة عائشة اإبنة الشيخ محمد بن الجيار محتسب سبتة.

أخذت هذه السيدة علم الطب عن صهرها الشيخ الشهير الشريشي، ونبغت فيه، وكانت عارفة بخواص العقاقير وما يرجع إلى ذلك. اشتهرت عند الأمراء، فكانوا يغدقون عليها من عطاياهم لأجل إتقانها لصنعة الطب. وقد أوصت الطبيبة عائشة في آخر عمرها بتوقيف أملاكها في وجوه البر والإحسان(9) ولا أستبعد أن يكون لهذه المرأة مثيلات ونظائر.

بالإضافة إلى ما ذكر؛ فقد كان للنسوة بالريف إسهام أدبي، يمكن التمثيل لذلك بعدة نماذج وأسماء منها: صفية العزفية من بيت العزفيين ولاة سبتة. وقد مدحتها الأديبة الشاعرة سارة بنت أحمد الحلبي بقصيدة خاصة(10).

إلا أنه وبالرغم من المكانة التي بلغتها الأديبة صفية العزفية والتي استدعت مدح الشاعرة الحلبية لها، فإن الباحثين لم يتمكنوا من الإطلاع على تفاصيل سيرتها ولا عن مقطوعاتها الأدبية شعرا ونثرا ولعلها قد ضاعت في ما ضاع من تراث أو لا يزال محبوسا في جوف المخطوطات.

كما كان للمرأة الريفية إنتاجا شعريا آخرا امتازت به عن غيرها، وهو الشعر الأمازيغي الذي عبرت به عن خلجاتها، ومشاعرها، وخلدت به ذكريات وأحداث تاريخية كثيرة محلية ودولية، فمن المحلية أحداث المقاومة الريفية للاحتلال الاسباني، سواء في عهد الشريف محمد أمزيان، أو في عهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، ومن الأحداث الدولية الحرب الأهلية الإسبانية.

كما استُعملت تلك الأشعار في المقطوعات الغنائية للمرأة في الأعراس والحفلات وغيرها كوسيلة تسلية وسمة لقسوة وصعوبة المجتمع الريفي. ثم سرعان ما كانت هذه الأشعار تراثا شفهيا باعتباره ظاهرة لغوية، لأن الإبداعية التي ميزتها على مستوى الصياغة البلاغية، والجمالية الفنية كشفت عن البعد الأنثروبولوجي الذي يحدد نمط عيش السكان، وكما قال المؤلف بيرناي: "يظل إزران هو النوع الغنائي في الريف الذي يكتسي أهمية، والذي من خلاله تستطيع التعرف على أفكار وعقلية الإنسان الريفي" (11) .

إن المرأة الريفية حافظت على الهوية الأمازيغية من خلال إبداعها وتميزها في كل هذه المجالات من داخل مختلف قبائل الريف التي تنتمي لها. فبينما كان الرجال يتولون رئاسة مجلس القبيلة وتمثيلها سياسيا في المحافل القبلية بالمنطقة ، كانت المرأة تتمتع بدور مهم وطلائعي يرتكز على تتويج القبيلة معرفيا وفنيا وثقافيا، هذا دون إغفال مهمتها في الحفاظ على أسرتها وعلى لحمة الجماعة بالموازاة مع صيانة التراث الأمازيغي الأصيل من الضياع.

إنه من المهم جدا ملاحقة هذا العطاء العلمي الأنثوي الريفي بالتدوين والتسجيل والتاريخ، وإلا فسنجد أنفسنا بعد حين من الدهر أمام صفحات بيضاء من التاريخ، قد تدفع البعض إلى الجرأة من جديد على اتهام المرأة الريفية بالجهل والتخلف، في حين أن الأمر يتعلق بعطاء وإبداع كبير لكنه غير مؤرخ... ولعل هذا هو عين ما حصل في الماضي، فضعف الحضور الفاعل للمرأة في تاريخ العلوم، ليس بالضرورة راجعا إلى انزواء المرأة وركونها، وإنما قد يكون عائدا إلى تهاون المؤرخين في توثيقها وتدوينها.

إن ورقة بيضاء وقلما أزرقا وهدوءا يعتري المكان هو أكثر شيء يلهمني عادة لأكتب، لكنني وجدت نفسي هذه المرة حائرة ومترددة، منزعجة ومستغرقة في التفكير! وأنا أتساءل؟ كيف لتراثنا الريفي الأمازيغي عامة، والمرأة الريفية خاصة، أن يكون تاريخها وأغلب ما قيل فيها كتب بالاسبانية نتيجة الاستعمار الذي شهدته المنطقة ! وجدت نفسي عاجزة بل راغبة في تعلم هذه اللغة، عساني أقرأ وأكتشف المزيد من روايات قد تكون صادقة أو كاذبة .

لا أُخْفيكم أن الغوص في البحث عن هذه الدرر كان مُضنِياً وممتعا في الآن ذاته، مُضنِياً بقدر صعوبة الفصح عن البنية المعقدة للمجتمع الريفي الذي ضاعت كتابته، وممتعا بقدر ما قدمت كل امرأة للهوية الريفية، وما هذه إلا بعض الإشارات التي لا تكفي قطعا لاستكمال صورة واضحة عن عطاء المرأة بالريف، غير أنها دالة على شيء من مشاركاتها المعرفية المختلفة، ووظائفها العلمية المتنوعة التي لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا، لكن بحضور أقوى، وفاعلية أجدى، إذ إن حضور المرأة الريفية الآن بارز وجلي في مختلف المجالات العلمية والمعرفية سواء كانت علوما شرعية أو كونية أو إنسانية.

ولعل مايثبت ذلك حضورها القوي بالمعرض الذي نظمته جمعية الريف للثقافة والتنمية والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية أيام 19 و20 دجنبر الحالي، بغية التعريف بالمنتوجات التقليدية الريفية من أدوات فخارية ولباس وحلي وأفرشة ،استعدادا للاحتفال بالسنة الأمازيغية الشهر المقبل.

إن هؤلاء النساء كن ولا زالن يصنعن كل شيء بجمال -كما عبرت عن ذلك خديجة في البداية- وهي التي تتقن العديد من الحرف وتسير تعاونية لإنتاج لوز منطقتها سيدي بوتميم بالحسيمة، لينطلقن جميعا بذلك الجمال من عالم المنطق والماديات إلى عالم المشاعر والخلجات فيؤسسن، سواء بوعي أو بدون وعي منهن، هوية أصيلة فريدة جعلت من كل واحدة منهن دُرَّة من دُرَرِ الريف...

 


زينب العظم هي مسؤولية ميدانية بمؤسسة الأطلس الكبير في إقليم الحسيمة، المغرب






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد