هــادئ وأنــيــق

mainThumb

18-04-2024 01:36 AM

هادئ وأنيق. على صفحته الفيسبوكية هكذا وصف صديقنا الفنان الفلسطيني العالمي كامل الباشا، الفيلم: أدعوكم لمشاهدة هذا الفيلم الهادئ والأنيق للمخرج الفلسطيني مؤيد عليان على النتفلكس.
ولأنني أحببت تعبير كامل، (هادئ وأنيق) ولثقتي بذائقته السينمائية ولمعرفتي السابقة بذكاء وثقافة مخرج الفيلم مؤيد عليان، ركضت إلى (بيت في القدس)، وأمضيت هناك في غرفه الواسعة ساعة ونصف الساعة من السحر، سحر البيت الفلسطيني القديم الذي سرقه الاحتلال، وباعه لصهيوني، بيت بحديقة واسعة وشجر وبئر ماء.
تنام السينما الفلسطينية سنوات فنرثيها ونحزن، أو تحاول أن تقدم جديدا فتتعثر، ثم تصحو فجأة وتباغتنا ببهاء سينمائي طازج، بلغة جديدة ورؤية مثيرة، في (بيت في القدس)، إثناء إقامتي هناك لأكثر من ساعة، رأيت فيلما عن فلسطين والنكبة والتهجير، لكني لم أسمع شرحا وصراخا ولم أر دموعا، لم أر شخصا يتحسر، ويتشنج، وقفت أمام صمت كبير، متمدد، وكلمات قليلة، وكاميرا ذكية تتحرك بمشاعرها الكامنة بين الأماكن والوجوه، ثم رأيت حكاية فلسطينية حزينة دون لطم، حكاية تتذكر، وتتساءل. قصة الفيلم كتبها رامي عليان ومؤيد عليان، وهي تكررت باستمرار في حياتنا، كل قصص حياتنا كفلسطينيين مع الاحتلال متشابهة، والأطراف هم هم، الضحية والجلاد، القاتل والمقتول، السارق والمسروق، بل إن كل قصص أزمات حياة الإنسان تتكرر في كل مكان في هذا العالم، الفن يقف أمام هذه الحكايات وقفة مختلفة، فهو لا يخضع لطريقتها في سرد ذاتها وفي تقديم نفسها للعالم، وألا تحول إلى دراسة أو مقال أو أخبار صحافية أو وثائق حزبية، أو بيانات حزبية، وقع الفن والأدب الفلسطيني في محطاته التاريخية المختلفة في ورطات عديدة كلفته إقامة قصيرة في قلب التاريخ، فكان التشنج والمباشرة في التوتر والبوح، وكان الغضب ولغة البيان والمظاهرة، القليل من الأعمال نجت في الرواية والسينما والقصة والقصيدة والمسرح.
(بيت في القدس) الناجي بامتياز من فخ التوتر اللاجمالي، سيظل في قلبي درسا في الأصالة والتجاوز معا، وسيبقى في تاريخ الناجين الرائعين، أيقونة السينما المميزة المثقفة.
الحكاية كما قلنا حدثت لمعظم الفلسطينيين الذين طردوا من بيوتهم ووجدوا أنفسهم في المخيمات، لكن لغة القصة التلميحية والهادئة ولعبة الفن السينمائي والاستخدام الخفيف والمعقول للفانتازيا، والأداء الرائع للممثلين، ومفاجأة المشهد الأخير، والواقعية المخيفة للقصة، وصدق الأماكن وأصالتها، والفجوات السردية التي تركت في الحوارات، واللقطات والربط العبقري بين أزمة سكان البيت اللصوص الشخصية، وبين ألم قصة المكان وساكنيه المطرودين منه العام 48، كل ذلك سحب من الحكاية عاديتها وأخذها إلى مستويات عالية من التفكير والدراما والمأساة الإنسانية الوجودية.
لن أتحدث عن كل تفاصيل القصة، سأدعوكم إليها كما دعاني كامل الباشا، وأستخدم كلماته نفسها: أدعوكم إلى فيلم هادئ وأنيق. اسمه (بيت في القدس) على النتفلكس.
قالت لي عمتي حليمة مرة: (أنا عايشة في المخيم وعمري 89 بس أنا لسه هناك بنت صغيرة بلعب جنب البير مع صاحبتي سعدة الواوي). هذه هي مركزية القصة ودلالتها: اسألوا أي لاجئ فلسطيني تجاوز الثمانين: أين تسكن يا حج؟ سيجيبك كما أجابني أبو خالد التسعيني في مخيم الجلزون ذات إحياء لذكرى النكبة:
- انت بتسأل أبو خالد الطفل ولا الحاج؟
- الاثنين يا حج.
- الطفل في بيت نبالا لسه هيو قاعد بساعد أبوه في تلقيط الفول الهيني، والحج هيو قاعد بتشمس في قهوة مغيرة في مخيم الجلزون.
شكرا مؤيد عليان.

(الأيام الفلسطينية)


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد